للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وغرض الصحابة بهذا الكلام التعريض في أن يسمح لهم بالقتال حتى يرتدع المشركون عن أذيّتهم (فَقَالَ) - صلى اللَّه عليه وسلم - (إِنِّي أُمِرْتُ) بالبناء للمفعول (بالعَفْوِ) أي في قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} الآية (فَلَا تُقَاتِلُوا) لعدم الأمر من اللَّه بذلك (فَلَمَّا حَوَّلَنَا اللَّهُ إِلَى المَدِينَةِ) بتشديد الواو من التحويل، أي أمرنا بأن نتحوّل بالهجرة، إلى المدينة، فهاجرنا (أَمَرَنَا بِالْقِتَالِ) ببناء الفعل للفاعل، أي أمرنا اللَّه تعالى (فَكَفُّوا) أي منعوا أنفسهم من القتال، أو امتنعوا عنه؛ لأن "كفّ" يتعدّى، ويلزم، قال الفيّومي: كفّ عن الشيء كفًّا، من باب قتل: تركه، وكَفَفْته كفًّا: منعته، فَكَفَّ هو، يتعدّى، ولا يتعدّى انتهى (فَأَنزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}) أي عن قتال المشركين ({وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}) الآية. [سورة النساء: ٧٧] فـ {أَلَمْ تَرَ} إلى آخر الآية مفعول "أنزل" محكيّ؛ لقصد لفظه.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: كان المؤمنون في ابتداء الإسلام، وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النصب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرّقون، ويودون لو أمروا بالقتال ليتشفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها قلّة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوّهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام، وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دارٌ، ومنعةٌ وأنصارٌ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودّونه جَزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفًا شديدًا، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}، أي لولا أخرت فرضه إلى مدّة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، وُيتّم الأولاد، وتَأيُّم النساء انتهى (١).

ثم إن الذين قالوا هذا الكلام فريق منهم، لا كلّهم، كما أشارت الآية إلى ذلك: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} الآية.

قال القرطبيّ في "تفسيره": وقال مجاهد: هم يهود (٢). وقال الحسن: هي في المؤمنين؛ لقوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أي مشركي مكة {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}، فهي على ما طُبع عليه البشر من المخافة، لا على المخالفة. قال السدّيّ: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال، فلما فُرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين؛ والمعنى يخشون القتل من


(١) - "تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٣٨.
(٢) - هذا أبعد الأقوال من سياق الآية، فليتنبّه.