للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الصحيحة تتحقّق فيه العبادات العظيمة، ولذلك اختلف العلماء في أيّ الأمرين أفضل، التزويج، أم التفرّغ منه للعبادة؟، كما هو معروف في مسائل الخلاف.

وعلى الجملة فما من شيء من المباحات المستلذّات وغيرها إلا ويمكن لمن شرح اللَّه صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نيّة التقرب بها، كما قد نصّ عليه المشايخ في كتبهم، كالحارث المحاسبيّ وغيره.

ومن فَهِمَ هذا المعنى، وحَصّله تحقّق أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قد حلّ من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعله بحدود اللَّه، وبما يُقَرّب منه.

ولما لم ينكشف هذا المعنى للنفر السائلين عن عبادته، استقلّوها بناء منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة، والصوم، والانقطاع عن الملاذّ، وهيهات بينهما ما بين الثريّا والثَّرَى، وسُهيل والسُّها (١).

وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث يتحقّق أن فيه ردًّا على غلاة المتزهّدين، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين؛ إذ كلّ فريق منهم قد عَدَل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه انتهى كلام القرطبيّ (٢).

(فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ) "ما" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار، أي ما شأنهم، وحالهم؟ (يَقُولُونَ: كَذَا وَكذَا) الجملة في محلّ نصب على الحال.

وفي رواية البخاريّ: "فجاء إليهم رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ". ويُجمع بين الروايتين بأنه منع من ذلك عمومًا جهرًا، مع عدم تعيينهم، وخُصوصًا فيما بينه وبينهم رفقًا بهم، وسترًا لهم.

(لَكِنِّي) استدراكٌ من شيء محذوف، دلّ عليه السياق، أي أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديّة سواء، لكن أنا أعمل كذا (أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي) المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. والمراد مَن ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري، فليس منّي، ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانيّة، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم اللَّه تعالى به، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه، وطريقة النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - الحنيفيّة السمحة، فيُفطر ليتقوّى على الصوم، وينام ليتقوّى على القيام، ويتزوّج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس،


(١) - كُوَيكِب صغير خفيّ في "بنات نعش الكبرى"، والناس يمتحنون به أبصارهم. انتهى "لسان العرب".
(٢) - "المفهم" ٤/ ٨٦ - ٨٧."كتاب النكاح".