وأخذ أبو حنيفة بقول عمر، وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها، فواحدةٌ بائنةٌ، ولا يرد عليه الإيراد السابق.
وقال الشافعيّ: التخيير كناية، فإذا خيّر الزوج امرأته، وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلّق منه، وبين أن تستمرّ في عصمته، فاختارت نفسها، وأرادت بذلك الطلاق طلّقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صُدّقت.
قال الحافظ: ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزمًا، نبّه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقيّ في "شرح الترمذيّ". ونبّه صاحب "الهداية" من الحنفيّة على اشتراط ذكر النفس في التخيير، فلو قال مثلاً: اختاري، فقالت: اخترتُ لم يكن تخييرًا بين الطلاق وعدمه، وهو ظاهر، لكن محلّه الإطلاق، فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ. وقال صاحب "الهدإية" أيضًا: إن قال: اختاري ينوي به الطلاق، فلها أن تطلّق نفسها، ويقع بائنا، فلو لم ينو فهو باطلٌ. وكذا لو قال: اختاري، فقالت: اخترتُ، فلو نوى، فقالت: اخترت نفسي وقعت طلقةٌ رجعيّة. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح ما قاله عمر، وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهو أنها إن اختارت زوجها، فلا شيء، وإن اختارت نفسها فهي طلقة واحدة؛ لحديث عائشة - رضي اللَّه عنها - المذكور في الباب وسيأتي وَجه الاستدلال في المسألة التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): قال الخطّابيّ: يؤخذ من قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "فاخترناه، فلم يكن ذلك طلاقًا" أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقًا. ووافقه القرطبيّ في "المفهم"، فقال: في الحديث أن المخيّرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقًا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدلّ على الطلاق، قال: وهو مقتبسٌ من مفهوم قول عائشة المذكور.
قال الحافظ: لكن ظاهر الآية أن ذلك بمجرّده لا يكون طلاقًا، بل لا بدّ من إنشاء الزوج الطلاق؛ لأن فيها:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} الآية، أي بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدّمةٌ على دلالة المفهوم. انتهى (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنه لا تخالف بين الدلالتين؛ إذ التسريح المراد به أن يخلي سبيلها، ولا يتعرض لها بعد اختيار نفسها؛ لكونه طلاقًا، لا أنه يحتاج إلى أن يطلقها، فلا يخالف مفهومُ حديث عائشة منطوق الآية. فَتَأَمَّلْ. واللَّه تعالى أعلم