للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

هو الأولى بكم، من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور، إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: ٢٠، ٢١] وكما قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية [آل عمران: ١٤] (١).

وقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتّى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زُوّارًا، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنّة، أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره. وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات. وقيل: هذا وعيد، أي اشتغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما يحلّ بكم من عذاب اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- (٢).

(قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ) أراد النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - بهذا تفسير هذه الآية الكريمة، فبيّن أن المراد بالتكاثر هو التكاثر في الأموال، وللمفسّرين أقوال في معناها، ولكن هذا التفسير هو الصواب المقدّم على غيره؛ لأن اللَّه تعالى جعل بيان كتابه إليه - صلى اللَّه عليه وسلم -، حيث قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: ٤٤].

وفي "صحيح البخاريّ" من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: "لو أن لابن آدم واديا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب".

قال: وقال لنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أُبَيّ، قال: كنا نَرَى هذا من القرآن، حتى نزلت. {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.

قال ابن العربيّ: وهذا نصّ صحيح مَلِيحٌ، غاب عن أهل التفسير، فجهِلُوا، وجَهُّلُوا، والحمد للَّه على المعرفة.

(مَالي، مَالِي) أي يغترّ بنسبة المال إليه، وكونه في يديه، حتّى ربّما يعجب به، ويفخر به، ولعلّه ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيرُه إلى نفعه، ثم أخبر - صلى اللَّه عليه وسلم - بالأوجه التي ينتفع فيها صاحب المال بماله، وافتتح الكلام بـ "إنما" التي هي للتحقيق، والحصر، فقال (وَإِنَّمَا مَالُكَ) هذا خطاب لكلّ يصلح له الخطاب (مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ) إنكار منه - صلى اللَّه عليه وسلم - على ابن آدم بأن ماله هو ما انتفع به في الدنيا بالأكل، أو اللبس، أو في الآخرة بالتصدّق، وأشار بقوله: "فأفنيت"، "فأبليت" إلى أن ما أكل، أو لبس، فهو قليل الجدوى، لا يرجع إلى عاقبة. قاله السنديّ (أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ) أي أردت التصدّق، فأمضيتَ ذلك، أو تصدّقت، فقدّمت لآخرتك. وفي حديث أبي هريرة - رضي


(١) "المفهم" ٧/ ١١١ "كتاب الزهد".
(٢) "تفسير القرطبيّ" ٢٠/ ١٦٩.