للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

محلوف بها، وأنه قال الحالف: وملّةِ اليهوديّة، وقوله: "كاذبًا" حال من فاعل حلف، وحَلَفَ يتضمّن عَظَّم، إذ الحلف تعظيم للمحلوف به قطعًا، فقوله: "كاذبًا"، فكأنه قال: من حلف معظّمًا لملة اليهوديّة، حال كونه كاذبًا في تعظيمه إياها بحلفه، إذ الحلف يتفرّع عن تعظيم ما حلف به، فكذبه كان بتعظيمه ما أهانه اللَّه تعالى، والحلف بالشيء يتضمّن الإخبار بتعظيمه، ولذا يقول صاحب الملك: وحياةِ الملك، فإن هذا حلف يتضمّن الإخبار باعتقاده، وتعظيم من حلف به، هذا مما لا ريب فيه. انتهى (١).

(فَهُوَ كَمَا قَالَ) هذا بظاهره يفيد أنه يصير كافرًا، لكن يحتمل أن يكون المراد ضعفه في دينه، وخروجه عن الكمال فيه. ويحتمل أن يكون المراد إن كان راضيًا بالدخول في تلك الملّة، فيكون كافرًا على ظاهره، خارجًا عن الإسلام.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يريد به النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: من كان معتقدًا لتعظيم تلك الملّة المغايرة لملّة الإسلام، وحينئذ يكون كافرًا حقيقةً، فيبقى اللفظ على ظاهره، و"كاذبًا" منصوبٌ على الحال، أي في حال تعظيم تلك الملّة التي حلف بها، فتكون هذه الحال من الأحوال اللازمة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: ٩١]؛ لأن من عظّم ملّةَ غير الإسلام كان كاذبًا في تعظيمه دائمًا في كلّ حال، وكلّ وقتٍ، لا ينتقل عن ذلك، ولا يصلح أن يقال: إنه يعني بكونه كاذبًا في المحلوف عليه؛ لأنه يستوي في ذمّه كونه صادقًا، أو كاذبًا إذا حلف بملّة غير الإسلام؛ لأنه إنما ذمّه الشرع من حيث إنه حلف بتلك الملّة الباطلة، معظّمًا لها، على نحو ما تُعظّم به ملّة الإسلام الحقّ، فلا فرق بين أن يكون صادقًا، أو كاذبًا في المحلوف عليه. واللَّه تعالى أعلم.

وأما إن كان الحالف بذلك غير معتقد لذلك فهو آثمٌ، مرتكبٌ كبيرة، إذ قد نسبه في قوله لمن يعظّم تلك الملّة، ويعتقدها، فغلّظ عليه الوعيد، بأن صيّره كواحد منهم، مبالغة في الردع، والزجر، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: ٥١]. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- (٢).

وقال في "الفتح": قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقوله: واللَّه، والرحمن، وقد يُطلق على التعليق بالشيء يمين، كقولهم: من حلف بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق، وأُطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحثّ والمنع. وإذا تقرَر ذلك، فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني؛ لقوله: "كاذبًا متعمّدًا"، والكذب يدخل القضيّة الإخباريّة


(١) "العدّة حاشية العمدة" ٤/ ٤٠٣ - ٤٠٤.
(٢) "المفهم" ١/ ٣١٢ "كتاب الإيمان".