من وجوه البرّ أفضل مما يتلزمه بالنذر. قاله الماورديّ. (ومنها): أن فيه الحثّ على الإخلاص في عمل الخير. (ومنها): أن فيه ذمّ البخل. (ومنها): أن من اتّبع المأمورات، واجتنب المنهيّات لا يُعد بخيلًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المر جع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى النهي عن النذر:
قال في "الفتح": وقد اختلف العلماء في هذا النهي، فمنهم: من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوله. قال ابن الأثير في "النهاية": تكرّر النهي عن النذر في الحديث، وهو تأكيد لأمره، وتحذيرٌ عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يُفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصيةً، فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمرٌ لا يجرّ لهم في العاجل نفعًا, ولا يَصرِف عنهم ضرًا, ولا يُغيّر قضاءً، فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر اللَّه لكم، أو تَصرِفوا به عنكم ما قدّره عليكم، فإذا نذرتم، فأخرُجوا بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى كلامه. ونسبه بعض شُرّاح "المصابيح" للخطّابيّ، وأصله من كلام أبي عُبيد فيما نقله ابن المنذر في "كتابه الكبير"، فقال: كان أبو عبيد يقول: وجه النهي عن النذر، والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا, ولو كان كذلك ما أمر اللَّه أن يُوفَى به، ولا حُمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر، وتغليظ أمره؛ لئلا يتهاون به، فيفرط في الوفاء به، ويترك القيام به. ثم استدلّ بما ورد من الحثّ على الوفاء به في الكتاب والسنة. وإلى ذلك أشار المازريّ بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفّظ في النذر، والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستقلًا لها لَمّا صارت عليه ضربة لازب، وكلّ ملزوم، فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار. ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يُريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرّب. قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير"، وقوله:"إنه لا يقرّب من ابن آدم شيئًا لم يكن اللَّه قدّره له"، وهذا كالنصّ على هذا التعليل انتهى. والاحتمال الأول يعُمّ أنواع النذر، والثاني يخصّ نوع المجازات. وزاد القاضي عياض: ويقال: إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالِب القدر، ولا يأتي الخيرُ بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظنّ بعض الجهلة. قال: ومُحصّل مذهب مالك أنه مباح، إلا إذا كان مؤيّدًا لتكرّره عليه في أوقات، فقد يثقل عليه فعله، فيفعله بالتكلّف من غير طيب نفس، وغير