للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ثم نقل القرطبيّ الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة؛ لقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع اللَّه تعالى، فليُطعه"، ولم يفرّق بين المعلّق وغيره انتهى. قال الحافظ: والاتفاق الذي ذكره مسلّمٌ، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلّق نظر. انتهى (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي لا نظر في ذلك، بل ما قاله القرطبيّ واضحٌ، حيث إن المعلق في جملة الأمر بالوفاء بالنذر، فيكون واجبًا. واللَّه تعالى أعلم.

ثم قال القرطبيّ: ومما يلحق بهذا النهي في الكراهة: النذر على وجه التبرّم، والتحرّج، فالأول كمن استثقل عبدًا لقلّة منفعته، وكثرة مؤنته، فينذر عتقه تخلّصًا منه، وإبعادًا له. وإنما يكره ذلك لعدم تمحّض نيّة القربة.

والثاني: أن يقصد التضييق على نفسه، والحمل عليها، بأن ينذر كثيرًا من الصوم، أو من الصلاة، أو غيرهما مما يؤدّي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه، فأما لو التزم بالنذر ما لا يُطيقه لكان ذلك محرّمًا، فأما النذر الخارج عما تقدّم، فما كان منه غير معلّق على شيء، وكان طاعة جاز الإقدام عليه، ولزم الوفاء به، وأما ما كان منه على جهة الشكر، فهو مندوبٌ إليه، كمن شُفي مريضه، فقال: للَّه عليّ أن أصوم كذا، أو أتصدّق بكذا شكرًا للَّه تعالى.

وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقًا، فيمكن حمله على الأنواع التي بيّنّا كراهتها، ويُمكن حمله على جميع أنواعه، لكن من حيث إنه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه، فيتعرّض لِلَوم الشرع، وعقوبته، كما قد كُره الدخول في الاعتكاف، وعلى هذا فتكون هذه الكراهة من باب تسمية ترك الأولى مكروهًا، ووجه هذا واضحٌ، وهو أن فعل القرب من غير التزام خيرٌ من محضٌ، عيريّ عن خوف العقاب، بخلاف الملتزم لها, فإنَّه يُخاف عليه ذلك فيها، وقد شهد لهذا ذمّ من قصر فيما التزم في قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الآية [الحديد: ٢٧]، ولا إشكال في أن النذر من جملة العقود، والعهود المأمور بالوفاء بها، وأن الوفاء بذلك من أعظم القرَب الْمُثنَى عليها، وكفى بذلك مدخا، وتعزيزا قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: ٧] انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- (٢).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما تقدّم عن القرطبي من حمل النهي عن النذر على نذر المجازاة، كأن يقول: إن شفى اللَّه مريضي فعلي نذر أن أتصدق بكذا هو


(١) راجع "الفتح" ١٣/ ٤٣٥ - ٤٣٧.
(٢) "المفهم" ٤/ ٦٠٦ - ٦٠٨.