قال الحافظ: والذي يظهر أن من قاتل مع النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئًا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحدٌ بعده كائنًا من كان، وأما من لم يقع له ذلك، فهو محلّ البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية [الحديد: ١٠].
واحتجّ ابن عبد البرّ بحديث: (مَثلُ أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوّله خيرٌ، أم آخره"، وهو حديث حسنٌ له طرُق، قد يرتقي بها إلى الصّحّة، وأغرب النوويّ، فعزاه في "فتاويه" إلى مسند أبي يعلى، من حديث أنس - رضي اللَّه عنه -، بإسناد ضعيف، مع أنه عند الترمذيّ بإسناد أقوى منه من حديث أنس - رضي اللَّه عنه -، وصححه ابن حبّان، من حديث عمّار - رضي اللَّه عنه -. وأجاب عنه النوويّ بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم - عليهما السلام -، ويرون في زمانه من الخير، والبركة، وانتظام كلمة الإسلام، ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك، أيُّ الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "خير القرون قرني". واللَّه أعلم.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، أحد التابعين بإسناد حسن، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لَيُدركنّ المسيحُ أقوامًا، إنهم لمثلكم، أو خيرٌ - ثلاثًا- ولن يُخزي اللَّه أُمّة أنا أوّلها، والمسيح آخرها". وروى أبو داود، والترمذيّ من حديث أبي ثعلبة - رضي اللَّه عنه -، رفعه: "تأتي أيّام، للعامل فيهنّ أجر خمسين"، قيل: منهم، أو منّا يا رسول اللَّه؟ قال: "بل منكم"، وهو شاهدٌ لحديث: "مثلُ أمتي مثل المطر".
واحتجّ ابن عبد البرّ أيضًا بحديث عمر - رضي اللَّه عنه -، رفعه: "أفضل الخلق إيمانًا قومٌ في أصلاب الرجال، يؤمنون بي، ولم يروني … " الحديث. أخرجه الطيالسيّ وغيره، لكن سنده ضعيف، فلا حجّة فيه. وروى أحمد، والدارميّ، والطبرانيّ، من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عُبيدة؛ يا رسول اللَّه، أأحدٌ خيرٌ منّا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: "قومٌ يكونون من بعدكم، يؤمنون بي، ولم يروني". وإسناده حسنٌ، وقد صححه الحاكم.
واحتجّ أيضًا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غُرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفّار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسّكم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين، وتمسّكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضًا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -، رفعه: "بدأ الإسلام غريبًا،