للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ: لولا آخر الناس ما فتحت قريةً إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خيبر.

ومما يُصحّح هَذَا المذهب ما رواه مسلم فِي "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، قَالَ: "منعت العراق قفيزها، ودرهمها، ومَنَعت الشام مُدّها، ودينارها" الحديث. قَالَ الطحاويّ: "منعت" بمعنى ستمنع، فدلّ ذلك عَلَى أنها لا تكون للغانمين؛ لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيزٌ، ولا درهم، ولو كانت الأرض تُقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: ١٠] بالعطف عَلَى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: ٨]. قَالَ: وإنما يُقسم ما يُنقل منْ موضع إلى موضع. وَقَالَ الشافعيّ: كل ما حصل منْ الغنائم منْ أهل الحرب منْ شيء، قل، أو كثر منْ دار، أو أرض، أو متاع، أو غير ذلك، قُسم، إلا الرجال البالغين، فإن الإِمام فيهم مخيّرٌ أن يمُنّ، أو يقتُل، أو يسبي، وسبيل ما أُخذ منهم، وسُبي سبيل الغنيمة، واحتجّ بعموم الآية، قَالَ: والأرض مغنومة، لا مَحالَة، فوجب أن تُقسم كسائر الغنائم، وَقَدْ قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما افتتح عَنْوةً منْ خيبر. قالوا: ولو جاز أن يُدّعى الخصوص فِي الأرض جاز أن يُدّعى فِي غير الأرض، فيبطل حكم الآية. وأما آية الحشر، فلا حجة فيها؛ لأن ذلك إنما هو فِي الفيء، لا فِي الغنيمة، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: ١٠] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان, لا لغير ذلك. قالوا: وليس يخلو فعل عمر فِي توقيفه الأرض منْ أحد وجهين: إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك، فوقفها، وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي سبي هَوَازن لَمّا أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كَانَ فِي أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئًا، فلم يحتج إلى مُراضاة أحد.

وذهب الكوفيّون إلى تخيير الإِمام فِي قسمها، أو إقرارها، وتوظيفب الخراج عليها، وتصير ملكاً لهم كأرض الصلح. قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ: وكأنّ هَذَا جَمْعٌ بين الدليلين، ووسطٌ بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله تعالى عنه قطعاً، ولذلك قَالَ: "لولا آخر الناس"، فلم يُخبر بنسخ فعل النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولا بتخصيصه بهم، غير أن الكوفيين زادوا عَلَى ما فعل عمر، فإنه إنما وقفها عَلَى مصالح المسلمين، ولم يملكها لأهل الصلح، وهم قالوا: للإمام أن يملّكها لأهل الصلح. انتهى (١).


(١) "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٤ - ٥. "تفسير سورة الأنفال".