وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": قوله فِي رِوَاية جَابِر، ورِواية مَعْقِل بن يَسَار. "بَايَعناهُ يوم الْحُدَيْبِية عَلَى ألا نفِرَّ، وَلَمْ نبايِعهُ عَلَى الْمَوْت"، وفِي رِواية سَلَمَة:"أنَّهُم بايعُوهُ يَؤمئِذٍ عَلَى الْمَوْت"، وهُو معنى رِواية عند الله بن زيد بن عاصِم. وفِي رِواية مُجاشِع بْن مَسْعُود:"البيعة عَلَى الهِجرة، والبيعة عَلَى الإسْلام، والْجِهَاد"، وفِي حَدِيث ابْن عُمَر، وَعُبَادَةَ:"بايعنا عَلَى السَّمْع والطَّاعَة، وألا نُنَازع الأمْر أَهْله"، وفِي رِواية عن ابْن عُمَر فِي غير "صحِيح مُسلم": "الْبَيْعَة عَلَى الصَّبْر".
قَالَ العُلماء: هذِهِ الرِّواية تجمع المعانِي كُلّهَا، وتُبينُ مقصُود كُلّ الرِّوايات، فالبيعة "عَلَى ألَّا نَفِرّ" مَعْنَاهُ: الصَّبْر حَتَّى نظفر بِعدُوِّنَا، أو نُقْتَل، وهُو معنى البيعة عَلَى الموت، أي: نصبِر، وإِن آل بِنا ذَلِكَ إِلى الموت، لا أنَّ الْمَوت مقْصُود فِي نفسه، وكذا البيعة عَلَى الجِهاد، أيْ والصَّبْر فِيهِ. والله أعلم.
وكان فِي أوّل الإسلام يجِب عَلَى العشرة منْ المُسلِمِين، أن يصبِرُوا لِمِائةٍ منْ الكُفَّار، ولا يفِرُّوا مِنْهُم، وعلى المِائة الصَّبْر لِألْفِ كَافِر، ثُمَّ نُسِخ ذَلِكَ، وصار الواجِب مُصابرة المِثْلَيْنِ فَقَطْ، هَذَا مَذْهبنا، ومذهب ابن عَبَّاس، وَمَالِك، والجُمْهُور، أنَّ الآية منسُوخة، وَقَالَ أبُو حنِيفة، وطائفة: ليست بِمنسُوخةٍ، واختلفُوا فِي أنَّ المُعْتبر مُجرَّد الْعَدد، منْ غَير مُراعاة القُوَّة والضَّعْف، أم يُراعى؟ والجُمهُور عَلَى أَنَّهُ لا يُراعى لِظاهِرِ القُرآن.
وأمَّا حدِيث عُبَادَة:"بايعنا رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ألا تُشرِكُوا بِاللهِ شيئًا، ولا تسرِقُوا إِلى آخره"، فإنَّما كَانَ ذَلِكَ فِي أوَّل الأمْر، فِي ليلة العقبة، قبل الهِجرة مِن مَكَّة، وقبل فَرْض الجِهَاد. انتهى كلام النوويّ (١).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قول جابر رضي الله تعالى عنه: "لم نبايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الموت"، إنما هو حكاية للّفظ الذي صدر منه، حين المبايعة، فلا ينفي صدور لفظ الموت منْ غيره، كما فِي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه الآتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى، وأنه لا اختلاف فِي المعنى، إذ المقصود مصابرة العدوّ، ولو أدّى ذلك إلى الموت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.