للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَإِنْ كُنَّا نعتقِد أن الْجُذَام لا يُعْدِي، لكِنَّا نجِد فِي أنفُسنا نُفرة، وكراهِية لِمُخالطتِهِ، حَتَّى لو أكره إِنسان نفسه عَلَى القُرب مِنْهُ، وعلى مُجالسته لتأذَّت نفسه بِذلِك، فحِينئِذٍ فالأولى لِلمُؤمِنِ أن لا يَتَعرَّض إِلى ما يحتاج فِيهِ إِلى مُجَاهَدَة، فيجتنِب طُرُق الأوهام، وَيُباعِد أسباب الآلآم، مع أَنَّهُ يعتقِد أنّهُ لا يُنجِّي حَذَر منْ قَدْر، والله أعلم.

قَالَ الشَّيْخ أبُو مُحَمَّد بن أبِي جَمْرَة: الأمر بِالفِرِارِ منْ الأسَد، ليس لِلوُجُوب، بل لِلشَّفَقَةِ؛ لِأنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ ينهى أُمَّته، عَنْ كُلّ ما فِيهِ ضَرَر، بِأيِّ وجه كَانَ، ويدُلّهُمْ عَلَى كُل ما فِيهِ خير. وَقَدْ ذكر بعض أهل الطِّبِّ، أنَّ الرَّوائِح تُحدِث فِي الأبدانِ خَلَلاً، فكان هَذَا وجه الأمْر بِالمُجَانبةِ، وَقَدْ أكل هُو مع الْمَجْذُوم، فلو كَانَ الأمر بمُجَانبتِهِ عَلَى الوُجُوب لِما فعلهُ. قَالَ: ويُمكِن الجمع بين فِعله وقوله، بِأنَّ القول هُو المَشْرُوع منْ أجل ضَعْف المُخاطبِين، وفِعله حقِيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السُّنَّة، وهِي أثر الحِكْمَة، ومن فعل الثَّانِي كَانَ أقوى يقِينًا؛ لِأن الأشياء كُلّها، لا تأثير لها، إِلّا بِمُقْتضى إِرادة الله تعالى وتَقْدِيره، كما قَالَ تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: ١٠٢]، فمن كَانَ قوِيّ الْيقِين، فَلَهُ أن يُتابِعهُ -صلى الله عليه وسلم- فِي فِعلِهِ، ولا يضُرّهُ شَيْء، ومن وجد فِي نَفْسه ضَعْفًا، فليتبع أمرهُ فِي الفِرار؛ لِئلا يَدْخُل بِفِعْلِهِ فِي إِلقاء نفسه إِلى التَّهْلُكة.

فالحَاصِل أنَّ الأُمُور الَّتِي يُتوقَّع مِنها الضرر، وَقَدْ أباحت الحِكْمَة الرَّبَّانِيَّة الْحَذَر مِنها، فلا يَنْبَغِي لِلضُّعَفاءِ أن يقربُوها، وأمَّا أصحاب الصِّدْق واليقِين، فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ. قَالَ: وفِي الْحَديث أنَّ الحُكْم لِلأكْثَرِ؛ لِأنَّ الغالِب مِن النَّاس هُو الضَّعْف، فجاء الأمْر بِالْفِرَارِ بِحَسَب ذَلِكَ. انتهى (١).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجحُ منْ هذه الأقوال هو الذي حققه أصحاب المسلك السادس، وهو الذي تقدم عن أبي عبيد، وابن خزيمة، والطبري، والطحاوي، والقرطبي، ولخصه الشيخ ابن أبي جمرة فِي كلامه الأخير. وخلاصته أن حديث "لا عدوى" عَلَى ظاهره، وأن الأمر بالفرار منْ الْمَجْذُوم محمول عَلَى الاستحباب؛ خشية أن يتفق له المرض، فيقع فِي سوء الظنّ بأنه إنما حدث له بمخالطته للمريض، وأما منْ كَانَ قويّ اليقين، وأنه لا يُصيبه إلا ما كتبه الله تعالى عليه، وأنه لا عدوى، فلا بأس بمخالطته، للمرضى، منْ المجذومين، وغيرهم، فبهذا تجتمع الآثار المختلفة فِي هَذَا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".


(١) "فتح" ١١/ ٣٠٨ - ٣١٢. "كتاب الطبّ". حديث: ٥٧٠٧.