للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الحديث يرُدّ حكايةً، حُكيت عن بعض مشايخ الصوفيّة، وذلك أن مريدًا له قَالَ له يوماً: قد حَمِي التنّور، فما أصنع؟ فتغافل عنه، فأعاد عليه القول، فقال له: ادخل فيه، فدخل المزيد فِي التنّور، ثم إن الشيخ تذكّر، فقال: الحقوه، كَانَ قد عقد عَلَى نفسه أن لا يُخالفني، فلحقوه، فوجدوه فِي التنّور لم تضرّه النار. وهذه الحكاية أظنّها منْ الكذب الذي كُذب به عَلَى هذه الطائفة الفاضلة، فكم قد كَذَبَ عليها الزنادقة، وأعداء الدين (١).

وبيان ما يُحقّق ذلك أن هَذَا الشيخ إما أن يكون قاصدًا لأمر ذلك المزيد بدخول التنّور، أو لا، فإن كَانَ قاصدًا كَانَ قصده ذلك معصيةً، ولا طاعة فيها بنصّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ويكون امتثال المزيد لذلك معصيةً، وكيف تظهر الكرامات عَلَى العصاة فِي حال معصيتهم؟، فإن الكرامة تدلّ عَلَى حسن حال منْ ظهرت عَلَى يديه، وأنه مطيع لله تعالى فِي تلك الحالة مع جواز أمر آخر يكون فِي المستقبل.

وإن كَانَ ذلك الشيخ غير قاصد لذلك، ولا شاعر بما صدر عنه، فكيف يحلّ للمريد أن يُلقي نفسه فِي النار بأمر غلَط، لا حقيقة له، ثم هَذَا المريد عاص بذلك الفعل، ولا يظهر عَلَى العاصي كرامة فِي حال ملابسته للمعصية، ولو جاز ذلك لجاز للزناة، وشَرَبَة الخمر، والفَسَقَة أن يدّعوا الكرامات، وهم ملابسون لفسقهم، هَذَا ما لا يجوز إجماعًا، وإنما تُنسب الكرامات لأولياء الله، وهم أهل طاعته، لا أولياء الشيطان، وهم أهل الفسق والعصيان. والأولى فِي هذه الحكاية، وأشباهها مما لا يليق بأحوال الفضلاء، والعلماء الطعن علي الناقل، لا عَلَى المنقول عنه. والله تعالى أعلم.

[فإن قيل]: إن الشيخ لم يكن قاصدًا لإدخال المزيد نفسه النار، وإنما صدر ذلك منه عَلَى جهة التأديب والتغليظ؛ لكونه أكثر عليه منْ السؤال، فكأنه قطعه عما كَانَ أولى به فِي ذلك الحال، والمريد لصحّة اعتقاده فِي شيخه، وللوفاء بما جعل له عليه منْ الطاعة، وترك المخالفة، ولاعتقاده أنه لا يأمره إلا بما فيه مصلحةٌ دينيّةٌ، ثم إنه قد صحّ توكّل هَذَا المريد عَلَى الله تعالى، وصدقه فِي حاله، فحصل له منْ مجموع ذلك أن اللى تعالى ينجيه من النار، ويجعل له فِي ذلك مخرجًا.


(١) فِي دعواه الكذب عليهم نظر لا يخفى، فإن هذه القصّة وأشباهها موجود فِي كتب هذه الطائفة، ومسّطر عندهم، كطبقات الشعراني، وغيره، وهم يتبجّحون به، ويذكرونه لمريديهم، ويحثّونهم عَلَى سلوك مثله، فكيف يقال: إن هَذَا مما كذب عليها الزنادقة، هيهات هيهات، فإن أردت أن تعلم حقيقة ما قلته، فراجع "الطبقات الكبرى" للشعراني جـ ٢ ص ٩٧، و١٢٢ و١٦٦ و١٦٧ ترى العجب العُجَاب اللَّهم أرنا الحقّ حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين.