الضَّرَر، وَهَذَا لا يَخْتَصّ بهَذَا.
وَوَقَعَ فِي حَدِيث يَزِيد بْن الأصَمّ: "أَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاس بِقِصَّةِ الضَّبّ، فَأَكْثَرَ القَوْمُ حَوْلَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا آكُلهُ، وَلا أَنْهَى عَنهُ، وَلَا أُحَرِّمهُ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: بِئْسَ مَا قُلْتُمْ، مَا بُعِثَ نَبِيُّ الله، إِلَّا مُحَرِّمًا، أَو مُحَلِّلاً". أَخْرَجَهُ مُسْلم.
قَالَ ابن العَرَبي: ظَنَّ ابْنُ عَبَّاس أنّ الَّذِي أَخبَرَ بِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا آكُلهُ"، أَرَادَ لا أُحِلّهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ خُرُوجه مِنْ قِسْم الْحَلال وَالْحَرَام مُحَال.
وَتَعَقَّبهُ الحافظ العراقيّ فِي "شَرْح التِّرْمِذيّ" بِأنَّ الشَّيْء، إِذَا لَمْ يَتَّضِح إِلْحَاقه بِالْحَلالِ، أَوْ الْحَرَام يَكُون منْ الشُّبُهَات، فَيَكُون مِنْ حُكْم الشَّيْء قَبْل وُرُود الشَّرْع، وَالأَصَحّ -كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ-: أَنَّهُ لا يُحْكَم عَلَيْهَا بِحِلٍّ، وَلَا حُرْمَة.
قَالَ الحافظ: وَفِي كوْن مَسْأَلَة الْكِتَاب، منْ هَذَا النَّوْع نَظَر؛ لأنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذَا تَعَارَضَ الْحُكْم عَلَى الْمُجْتَهد، أمَّا الشَّارع إذا سُئِلَ عَن وَاقِعَة، فَلابُدَّ أنْ يَذكُر فِيهَا الْحُكْم الشَّرْعيّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابن العَرَبِيّ، وَجَعَلَ مَحَطّ كَلام ابن عَبَّاس عَلَيهِ.
ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْحَدِيث زِيَادَة لَفْظَة، سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَة مُسْلِم، وَبَها يَتَّجِه إِنْكَار ابْن عَبَّاس، وَيُسْتَغنَى عَن تَأْوِيل ابْن الْعَرَبِيّ "لا آكُلهُ" بِلا أُحِلّهُ، وَذَلِكَ أَن أَبَا بَكر بْن أَبِي شَيْبَة، وَهُوَ شَيْخ مُسْلِم فِيهِ، أَخْرَجَهُ فِي "مُسْنَده" بِالسَّنَدِ الَّذِي سَاقَهُ بِهِ عنْد مُسْلِم، فَقَالَ فِي رِوَايَته: "لا آكُلهُ، وَلا أَنْهَى عَنهُ، وَلا أُحِلّهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، وَلَعَلّ مُسْلمًا حَذَفَهَا عَمْدًا؛ لِشُذُوذِهَا؛ لأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ الطُّرُق، لا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَلا غَيْره، وَأَشْهَر مَنْ رَوَى عَن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا آكُلهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، ابْنُ عُمَر، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثه: "لا أُحِلّهُ"، بَلْ جَاءَ التَّصْرِيح عَنْهُ بِأنَّه حَلال، فَلَمْ تَثبُت هَذِهِ اللَّفْظَة، وَهِيَ قَوْله: "لا أُحِلّهُ"، لأَنَّهَا وإنْ كَانَت منْ رِوَايَة يَزِيد بْن الأصَمّ، وَهُوَ ثِقَةٌ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَا عَن قَوْم، كَانُوا عِنْد ابن عَبَّاس، فَكَانَتْ رِوَايَة عَن مَجْهُول، وَلَمْ يَقُلْ يَزِيد بْن الأَصَمّ: إِنَّهُمْ صَحَابَة، حَتَّى يُغْتَفَر عَدَم تَسْمِيَتهمْ.
وَاستَدَلَّ بَعض مَنْ مَنَعَ أَكْله، بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد، عِنْد مُسْلِم: أنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "ذُكِرَ لِي أَنَّ أُمَّة، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل مُسِخَتْ"، وَقَدْ ذَكَرْته وَشَوَاهِده قَبْل، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيث الْجَزْمُ بأنَّ الضَّبّ مِمَّا مُسِخَ، وإنَّما خَشِيَ أَنْ يَكُون مِنْهُمْ، فَتَوَقَّفَ عَنهُ، وإنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْل أنْ يُعْلِم الله تَعَالَى نَبيّه صلّى الله تعالى عليه وسلم، أَنَّ الْمَمْسُوخ لا يَنْسِلُ (١)، وَبِهَذَا أَجَابَ الطَّحَاوِيُّ، ثُمّ أَخْرَجَ منْ طَرِيق الْمَعْرُور بْن سُوَيْد،
(١) نسل منْ باب ضرب: كثُر نسله، ويتعدّى إلى مفعول، فيقال: نسلت الولدَ نسلاً: أي ولدته، وأنسلته بالألف لغة. اهـ مصباح.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute