للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فقد طهر"، فلا يُلتفت إليه، والله تعالى أعلم.

قَالَ: ونحو ذلك حُكي عن أبي حنيفة، أو سفيان الثوريّ أنه قَالَ: لأن أخرّ منْ السماء أهون عليّ منْ أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه، فقد أعلموا الراجح فِي الفتيا، وتورّعوا عنه فِي أنفسهم. وَقَدْ قَالَ بعض المحققين: منْ حِكَم الحكيم أن يوسّع عَلَى المسلمين فِي الأحكام، ويُضيّق عَلَى نفسه. يعني به ذلك المعنى.

ومنشأ هَذَا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات نشأ منْ القول بأن المصيب واحدٌ، وهو مشهور قول مالك، ومنه ثار القول فِي مذهبه بمراعاة الخلاف، كما بيّنّاه فِي الأصول، غير أن تلك التجوّزات المعتبرة، وإن كانت مرجوحة، فهي عَلَى مراتب فِي القرب والبعد، والقوّة والضعف، وذلك بحسب الموجب لذلك الاعتبار، فمنها ما يوجب حَزَازةً فِي قلب المتّقي، ومنها ما لا يوجب ذلك، فمن لم يجد ذلك، فلا ينبغي له أن يتوقّف؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده، ومن وجد ذلك توقّف، وتورّع، وإن أفتاه المفتون بالراجح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-:"لا يبلغ العبد أن يكون منْ المتّقين حَتَّى يدع ما لا بأس به، حذرًا مما به البأس" (١)، وهنا يصدق قولهم (٢): استفت قلبك، وإن أفتوك، لكن هَذَا إنما يصح ممن نوّر الله قلبه بالعلم، وزيّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرًا فِي قلبه، كما يُحكى عن كثير منْ هذه الأمة، كما نَقَل عنهم فِي "الحلية" لأبي نعيم، و"صفة الصفوة" لابن الجوزيّ، وغيرهما منْ كتب ذلك الشأن.

وأما إن لم يترجّح الفعل عَلَى الترك، ولا الترك عَلَى الفعل، فهذا هو الأحقّ باسم الشبهة، والمتشابه؛ لأنه قد تعارضت فيه الأشباه، فهذا النوع يجب فيه التوقّف إلى الترجيح؛ لأن الإقدام عَلَى أحد الأمرين منْ غير رجحان حكمٌ بغيرِ دليل، فيحرُم، إذ لا دليل مع التعارض، ولعلّ الذي قَالَ: إن الإقدام عَلَى الشبهة حرامٌ، أراد هَذَا النوع، والذي قَالَ: إن ذلك مكروه، أراد النوع الذي قبل هَذَا. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" ٤/ ٤٩٠ - ٤٩٢. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما يتعلّق بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وهي القلب":


(١) رواه الترمذيّ رقم ٢٤٥١ وابن ماجه رقم ٤٢١٥ وهو ضعيف؛ لأن فِي سنده عبد الله بن يزيد الدمشقيّ، وهو ضعيف.
(٢) كَانَ الأولى به أن يجعله حديثا مرفوعًا، فإنه حديث حسن، أخرجه البخاريّ فِي "التاريخ الكبير" منْ حديث وابصة. فتنبّه.