ومنازلة المقامات، والترقّى عن مفضول المنازلات، إلى سنيّ الحالات.
وأما الأحوال، فمراقبة الله تعالى فِي السرّ والعلن، والتمكّن منْ الاستقامة عَلَى السنن، وإلى هَذَا أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قَالَ:"أن تعبد الله كأنك تراه" متّفقٌ عليه. وتفصيل هذه المعاقد الْجُمليّة توجد فِي تصانيف محقّي الصوفيّة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بل هي مفصّلة فِي الكتاب والسنّة، فمن أمعن النظر، وأجال الفكر ظفر بمقاصدها، وأما ما اصطلح عليه المتأخّرون منْ الألفاظ المصطلحيّة، فلا حاجة للمكلّف إليها، ولا هي مما تكلّم بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل الله تعالى هداية الأمة عَلَى يديه، ولا كَانَ يعرفها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، ولا التابعون لهم بإحسان، ولو سئلوا عنها لما استطاعوا أن يفهموها، فضلاً عن أن يجيبوا عنها، ولو طُلب منْ الأئمة الأربعة الفقهاء المحققين، أو منْ الأئمة الستة المحدثين الناقدين أن يحُلّوا بعض غوامضها لما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فهيهات هيهات أن يكون هَذَا منْ مقاصد الدين، الذي أكمله الله سبحانه وتعالى، وأتمّه، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيّ بين ظهراني أصحابه، فلا يقبل الزيادة ولا النقص، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي محكم كتابه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: ٣]. وَقَدْ حذّر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن محدثات الأمور، فكان يقول فِي خطبته:"إن أصدق الْحَدِيث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة فِي النار"، رواه النسائيّ رقم ١٥٧٨ بسند صحيح.
وأخرج الترمذيّ منْ حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قَالَ: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما، بعد صلاة الغداة، موعظة بليغة، ذَرَفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فَقَالَ رجل: إن هذه موعظة مُودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله، قَالَ:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه منْ يعش منكم، يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ".
وذكر الإِمام الذهبيّ رحمه الله تعالى فِي "ميزان الاعتدال" ١/ ٤٣٠ - ٤٣١ عن الحافظ سعيد بن عمرو البردعيّ، أنه قَالَ: شهدت أبا زرعة، وَقَدْ سئل عن الحارث بن أسد المحاسبيّ، وكتبه؟ فَقَالَ للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، وعليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يُغنيك، قيل له: فِي هذه الكتب عبرة، فَقَالَ: منْ لم يكن له فِي كتاب الله عبرة، فليس له فِي هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان، ومالكًا، والأوزاعيّ صنّفوا هذه الكتب فِي الخطرات، والوساوس، ما أسرع النَّاس إلى البدع.