للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

"اليمين الكاذبة"، وخير ما فُسّر به الوارد هو الوارد (مَنْفَقَةٌ) بفتح الميم، والفاء، بينهما نون ساكنة، مَفْعَلة منْ النَّفاق -بفتح النون-، وهو الرواج، ضد الكساد (لِلسِّلْعَةِ) بكسر السين المهملة: المتاع (مَمْحَقَةٌ) بالمهملة، والقاف، بوزن ما قبله، وحكى عياض ضمّ أوله، وكسر الحاء، والمحق النقص، والإبطال. وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الرواية مَنفَقة، ممحقة -بفتح الميم، وسكون ما بعدها، وفتح ما بعدها- وهما فِي الأصل مصدران مزيدان، محدودان، بمعنى النَّفاق، والمحق: أي الحلف الفاجرة تنفق السلعة، وتمحق بسببها البركة، فهي ذات نَفَاق، وذات مَحْق. ومعنى تمحق البركة: أي تُذهبها، وَقَدْ تُذهب رأس المال والربح، كما قَالَ الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية [البقرة: ٢٧٦] وَقَدْ يتعدّى المحق إلى الحالف، فيُعاقب بإهلاكه، وبتوالي المصائب عليه، وَقَدْ يتعدّى ذلك إلى خراب بيته، وبلده، كما روي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع" (١)، أي خالية منْ سكانها، إذا توافقوا عَلَى التجرّؤ عَلَى الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات فِي الآخرة، فلابدّ منه لمن لم يتب، وسبب هَذَا كلّه أن اليمين الكاذبة يمين غَمُوس، يؤكل بها مال المسلم بالباطل. انتهى "المفهم" ٤/ ٥٢٢ - ٥٢٣.

(لِلْكَسْبِ") هكذا فِي رواية ابن وهب بلفظ "الكسب"، وتابعه الليث عند الإسماعيليّ، ومال الإسماعيليّ إلى ترجيح هذه الرواية، وفي رواية البخاريّ: "للبركة ولمسلم: "للربح".

والمعنى أن الحلف مظنّة لرواج السلعة فِي الحال، لكنه مزيل لبركتها فِي المآل، بأن يسلط الله تعالى عليه وجوها منْ أسباب التلف، إما سرقة، أو حرقًا، أو غرَقًا، أو غصبًا، أو نهبًا، أو عوارض أخرى يتلف بها مما شاء الله تعالى، فيكون كسبه، وجمعه مجرّد تعب، وكدّ، وهو عقاب منْ الله تعالى، مع ما ينتظره منْ العذاب الأليم فِي الآخرة، إن لم يتب، كما قَالَ عز وجل: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: ٥٥]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.


(١) حديث صحيح، أخرجه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" مطولاً -١٠/ ٣٥، وانظر "السلسة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى ٢/ ٧٠٦ - ٧٠٩.