وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هو البيع المشتمل عَلَى غَرَرٍ مقصود، كبيع الأجِنّة، والسمك فِي الماء، والطير فِي الهواء، وما أشبه ذلك، فأما الغرر اليسير الذي ليس بمقصود، فلم يتناوله هَذَا النهي؛ لإجماع المسلمين عَلَى جواز إجارة العبد، والدار مشاهرةً، ومساناةً، مع جواز الموت، وهدم الدار قبل ذلك، وعلى جواز إجارة الدخول فِي الْحَمّام، مع تفاوت النَّاس فيما يتناولون منْ الماء، وفي قدر الْمُقام فيه، وكذلك الشرب منْ السقاء، مع اختلاف أحوال النَّاس فِي قدر المشروب، وأيضًا، فإن كلَّ بيع لابدّ فيه منْ نوع منْ الغرر، لكنه لَمّا كَانَ يسيرًا، غير مقصود، لم يلتفت الشرع إليه. ولَمّا انقسم الغرر عَلَى هذين الضربين، فما تبيّن أنه منْ الضرب الأول مُنع، وما كَانَ منْ الضرب الثاني، أُجيز، وما أشكل أمره، اختُلف فيه، منْ أيّ القسمين هو، فيُلحقَ به. انتهى "المفهم" ٤/ ٣٦٢.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": وأما النهي عن بيع الغرر، فهو أصل عظيم، منْ أصول "كتاب البيوع"، ولهذا قدّمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة، غير منحصرة، كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يُقْدَر عَلَى تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك فِي الماء الكثير، واللبن فِي الضرع، وبيع الحمل فِي البطن، وبيع بعض الصُّبْرَة مبهما، وبيع ثوب منْ أثواب، وشاة منْ شياه، ونظائر ذلك، وكل هَذَا بيعه باطل؛ لأنه غرر منْ غير حاجة، وَقَدْ يُحتَمَل بعضُ الغرر بيعا، إذا دعت إليه حاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي فِي ضرعها لبن، فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر منْ الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول فِي حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون عَلَى جواز أشياء فيها غرر حقير، منها: أنهم أجمعوا عَلَى صحة بيع الْجُبّة المحشوة، وإن لم يُر حشوها، ولو بيع حشوها بإنفراده لم يجز، وأجمعوا عَلَى جواز إجارة الدار، والدابة، والثوب، ونحو ذلك شهرا، مع أن الشهر، قد يكون ثلاثين يوما، وَقَدْ يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا عَلَى جواز دخول الحمّام بالأجرة، مع اختلاف النَّاس فِي استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا عَلَى جواز الشرب منْ السقاء بالعوض، مع جهالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هَذَا. وأجمعوا عَلَى بطلان بيع الأجِنّة فِي البطون، والطير فِي الهواء.
قَالَ العلماء: مدارُ البطلان بسبب الغرر، والصحةِ مع وجوده، عَلَى ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه، إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرا، جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع فِي بعض مسائل الباب، منْ اختلاف العلماء فِي