للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَقَالَ بعض أصحابنا أي الحنبليّة-: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية، إذا لم يكن ذلك حيلة، ولا مواطأةً، بل وقع اتّفاقًا. وفرق بينها وبين الصورة الأولى بفرقين: [أحدهما]: أن النصّ ورد فيها، فيبقى ما عداها عَلَى أصل الجواز. [والثاني]: أن التوسّل إلى الربا بتلك الصورة أكثر منْ التوسّل بهذه. والفرقان ضعيفان، أما الأول، فليس فِي النصّ ما يدلّ عَلَى اختصاص العينة بالصورة الأولى، حَتَّى تتقيّد به نصوص مطلقة عَلَى تحريم العينة، والعِينة فِعْلة منْ العين: النقد، قَالَ الشاعر [منْ الطويل]:

أَنَدَّانُ أَمْ نَعْتَانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا … فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُهْ

قَالَ الجوزجانيّ: أنا أظنّ أن العينة إنما اشتقّت منْ حاجة الرجل إلى العين منْ الذهب والورق، فيشتري السلعة، ويبيعها بالعين الذي احتاج إليها, وليست به إلى السلعة حاجة.

وأما الفرق الثاني، فكذلك؛ لأن المعتبر فِي هَذَا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق منْ الاتّفاق والقصد لزم طرد ذلك فِي الصورة الأولى، وأنتم لا تعتبرونه.

[فإن قيل]: فما تقولون: إذا لم تعد السلعة إليه، بل رجعت إلى ثالث، هل تسمّون ذلك عينة؟.

[قيل]: هذه مسألة التورّق؛ لأن المقصود منها الورق، وَقَدْ نصّ أحمد فِي رواية أبي داود عَلَى أنها منْ العينة، وأطلق عليها اسمها. وَقَدْ اختلف السلف فِي كراهتها، فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها، وكان يقول: "التورّق آخية الربا" (١). ورخّص فيها إياس بن معاوية. وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان، وعلّل الكراهة فِي إحداهما بأنه بيع مضطرّ، وَقَدْ روى أبو داود عن عليّ -رضي الله عنه-: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المضطرّ، وفي "المسند" عن عليّ -رضي الله عنه- قَالَ: "سيأتي عَلَى النَّاس زمان يعض المؤمن عَلَى ما فِي يده، ولم يؤمر بذلك، قَالَ تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: ٢٣٧]، ويباع المضطرّون، وَقَدْ نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع المضطرّ"، وذكر الْحَدِيث. فأحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع منْ رجل مضطرّ إلى نقد؛ لأن الموسر يضنّ عليه بالقرض، فيضطرّ إلى أن يشتري منه سلعة، ثم يبيعها، فإن اشتراها منه بائعها كانت عِينة، وإن باعها منْ غيره فهي التورّق، ومقصوده فِي الموضعين الثمن، فقد حصل فِي ذمته ثمن مؤجّل مقابل لثمن حالّ، أنقص منه، ولا معنى للربا إلا هَذَا، لكنه ربا بسلّم، لم يحصل له مقصوده إلا بمشقّة، ولو لم يقصده كَانَ ربا بسهولة.


(١) الآخية بالمدّ: العروة فِي طرف الحبل تربط به الدابة، يعني أن التورّق يجر إلى الربا.