[والثالث]: عكسه، وهو موافقته فِي المثل، دون النفش، وهو قول داود، وغيره، فإنهم يقولون: إذا أتلف البستان بتفريطه ضمنه بمثله، وأما إذا انفلتت الغنم ليلاً لم يضمن صاحبها ما أتلفته.
[والرابع]: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو أوجبه لم يكن بالمثل، بل بالقيمة، فلم يوافقه لا فِي النفش، ولا فِي المثل، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا منْ اجتهادهم فِي القياس، والعدل هو الذي أوجبه الله.
فكلّ طائفة رأت العدل هو قولَها، وإن كانت النصوص، والقياس، وأصول الشرع تشهد بحكم سليمان -عليه السلام-، كما أن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه به، وأخبر أنه فهّمه إياه.
وذِكرُ مأخذ هذه الأقوال، وأدلّتها، وترجيح الراجح منها, له موضعٌ غير هَذَا، أليق به منْ هَذَا.
والمقصود أن القياس، والنصّ يدلّان عَلَى أنه يُفْعَل به كما فَعَل، وَقَدْ تقدّم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: رضّ رأس اليهوديّ، كما رضّ رأس الجارية، وأن ذلك لم يكن لنقض العهد، ولا للحرابة؛ لأن الواجب فِي ذلك القتلُ بالسيف، وعن أحمد فِي ذلك أربع روايات:
[إحداهنّ]: أنه لا يُستوفى القود إلا بالسيف فِي العنق، وهذا مذهب أبي حنيفة.
[والثانية]: أنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، إذا لم يكن محرّمًا لحقّ الله تعالى، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ.
[والثالثة]: إن كَانَ الفعلُ، أو الجرح مُرهقًا فُعِل به نظيرُهُ، وإلا فلا.
[والرابعة]: إن كَانَ الجرح، أو القطع موجبًا للقود لو انفرد فُعِل به نظيره، وإلا فلا. وعلى الأقوال كلّها إن لم يمت بذلك قُتل. وَقَدْ أباح الله تعالى للمسلمين أن يَمثُلُوا بالكفّار إذا مَثَلُوا بهم، وإن كانت المُثْلة منهيّا عنها، فَقَالَ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: ١٢٦]، وهذا دليلٌ عَلَى أن العقوبة بجدع الأنف، وقطع الأذن، وبَقْرِ البطن، ونحو ذلك هي عقوبةٌ بالمثل، ليست بعُدوان، والمثلُ هو العدل.
وأما كون المثلة منهيًّا عنها؛ فلِمَا روى أحمد فِي "مسنده" منْ حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين -رضي الله عنهم-، قالا: "ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبةً، إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة".
[فإن قيل]: هو لم يمُت إذا فُعل به نظير ما فعل، فأنتم تقتلونه، وذلك زيادة عَلَى ما فعل، فأين المماثلة؟.