(فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ) بتشديد الياء، عَلَى صيغة التثنية (هَذَيْنِ، فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ) هذه منْ عادة جُفاة الأعراب، وخشونتهم، وعدم تهذيبهم أخلاقهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: ٩٧]. وقيل: لعله كَانَ منْ المؤلّفة، ولهذا قَالَ ما قَالَ.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا) أي لا أحمل لك منْ مالي، ولا منْ مال أبي (وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أي إن كَانَ الأمر عَلَى خلاف ذلك. قَالَ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "مرقاة الصعود": وهذا منْ حسن العبارة؛ لأن حذف الواو يوهم نفي الاستغفار. وَقَالَ الفخر الرازيّ: روي عن أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- أنه دخل السوق، فَقَالَ لبيّاع: أتبيع هَذَا الثوب؟، فَقَالَ: لا، عافاك الله، قَالَ له أبو بكر: لو علمتم، قل: لا، وعافاك الله. وهذا منْ لطائف النحو؛ لأنه عند حذفها يوهم كونه دعاء عليه، وعند ذكر الواو لا يبقى ذلك الاحتمال. انتهى. نقله فِي "عون المعبود" ١٣/ ١٣٢ - ١٣٤.
(لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي) بضمّ أوله، منْ الإقادة: أي حتّى تمكّنني منْ نفسك حَتَّى أقتصّ (مِمَّا جَبَذْتَ بِرَقَبَتِي) "ما" مصدريّة: أي منْ جذبك رقبتي. ولعلّ المراد -كما قَالَ السنديّ- الإخبار أنه لا يستحقّ أن يُحمل له بلا أخذ القود منه، وإلا فقد حمل له بلا قود، وفيه دلالة عَلَى شرع القود منْ الجبذة، وهو محلّ استدلال المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى الترجمة، وَقَدْ تقدّم قبل باب أن هَذَا هو القول الراجح فِي المسألة، فلا تغفُل.
(فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللهِ لَا أُقِيدُكَ) أي لا أمكّنك منْ القود، وهذا دليل جفوته الأعرابيّة، ويحتمل أنه أراد لكمال كرمه -صلى الله عليه وسلم- أنه يعفو عنه البتّة، والأول أظهر (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الأَعْرَابِيِّ، أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا) أي مسرعين، وإنما قاموا سراعًا؛ غضبًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث اعتدى عليه ذلك الأعرابيّ، فارادوا تأديبه (فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "عَزَمْتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي) أي أقسمت عليه، يقال: عزم عَلَى الرجل، منْ باب ضرب: أقسم عليه، أفاده فِي "القاموس"(أَنْ لَا يَبْرَحَ) بفتح الراء، منْ باب تَعِبَ: أي لا يَزَالَ (مَقَامَهُ) بفتح الميم، أي مكانه، ويجوز ضمّها، منْ الإقامة (حَتَّى آذَنَ لَهُ) بالمدّ، منْ الإذن: يعني أنه لا يترك أحد مكانه إلا بإذني، يثبت فيه، كأنه -صلى الله عليه وسلم- أراد بذلك إظهار ما أعطاه الله تعالى منْ كمال شرح الصدر، وسعة الخلُق؛ ليقتدوا به فِي ذلك بقدر وُسعهم، وطاقتهم. والله تعالى أعلم (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، لِرَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ:"يَا فُلَانُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا، وَعَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انْصَرِفُوا) أي