أُكره عَلَى الكفر، فترك البتة إلى أَنْ قُتل. (ومنها): ما قيل: إنما قَالَ: "مما سواهما"، ولم يقل:"ممن"؛ ليعم منْ يعقل، ومن لا يعقل. (ومنها): ما قيل أيضًا: إن فِي قوله: "مما سواهما" دليلاً عَلَى أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله -رضي الله عنه- للذي خطب، فَقَالَ: ومن يعصمهما: "بئس الخطيب أنت"، فليس منْ هَذَا؛ لأن المراد فِي الْخُطَب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز فِي اللفظ؛ ليحفظ، ويدل عليه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قاله فِي موضع آخر، حيث قَالَ:"ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه".
[واعتُرض]: بأن هَذَا الْحَدِيث إنما ورد أيضًا فِي حديث خطبة النكاح.
[وأجيب]: بأن المقصود فِي خطبة النكاح أيضًا الإيجاز، فلا نقض، وثَمَّ أجوبة أخرى، [منها]: دعوى الترجيح، فيكون حَيِّزُ المنع أولي؛ لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل، والآخر مبنيّ عَلَى الأصل، ولأنه قول، والآخر فعل. ورُدَّ بأن احتمال التخصيص فِي القول أيضًا حاصل، بكل قول ليس فيه صيغة عموم أصلاً. [ومنها]: دعوى أنه منْ الخصائص، فيمتنع منْ غير النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جَمَعَ أَوْهَم إطلاقة التسوية، بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هَذَا مال ابن عبد السلام. [ومنها]: دعوى التفرقة بوجه آخر، وهو أن كلامه -صلى الله عليه وسلم- هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مكان المضمر، وكلام الذي خطب جملتان، لا يُكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر.
وتُعُقِّب هَذَا بأنه لا يلزم منْ كونه لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر، أن يكره إقامة المضمر فيهما مقام الظاهر، فما وجه الرد عَلَى الخطيب، مع أنه هو -صلى الله عليه وسلم- جمع كما تقدم؟.
ويجاب بأن قصة الخطيب كما قلنا، ليس فيها صيغة عموم، بل هي واقعة عين، فيحتمل أن يكون فِي ذلك المجلس مَن يُخشَى عليه توهم التسوية، كما تقدم.
ومن محاسن الأجوبة فِي الجمع بين حديث الباب، وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب منْ المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية، إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله تعالى مثلا، ولا يحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: ٣١]، فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبّة العباد، ومحبة الله تعالى للعباد، وأما أمر الخطيب بالإفراد، فلأن كل واحد منْ العصيانين، مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف فِي تقدير التكرير، والأصل استقلال كل منْ المعطوفين فِي الحكم، ويشير إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية