بمن كَانَ منهم بالكوفة، ولا يعارض ذلك ما أخرجه ابن أبي داود، منْ طريق الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود، فذكر نحو حديث الباب، وفيه قَالَ الزهريّ: فبلغني أن ذلك كرهه منْ قول ابن مسعود رجال منْ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه محمول عَلَى أن الذين كرهوا ذلك، منْ غير الصحابة الذين شاهدهم شقيق بالكوفة، ويحتمل اختلاف الجهة، فالذي نفى شقيق أن أحدا ردّه، أو عابه وصف ابن مسعود بأنه أعلمهم بالقرآن، والذي أثبته الزهريّ ما يتعلق بأمره بِغَلّ المصاحف، وكأن مراد ابن مسعود بغل المصاحف كتمها، وإخفاؤها؛ لئلا تُخَرج، فتُعْدَم، وكأن ابن مسعود رأى خلاف ما رأى عثمان، ومن وافقه فِي الاقتصار عَلَى قراءة واحدة، وإلغاء ما عدا ذلك، أو كَانَ لا ينكر الاقتصار؛ لما فِي عدمه منْ الاختلاف، بل كَانَ يريد أن تكون قراءته، هي التي يُعَوَّل عليها، دون غيرها؛ لما له منْ المزية فِي ذلك، مما ليس لغيره، كما يؤخذ ذلك منْ ظاهر كلامه، فلَمّا فاته ذلك، ورأى أن الاقتصار عَلَى قراءة زيد ترجيح بغير مرجح عنده، اختار استمرار القراءة عَلَى ما كانت عليه، عَلَى أن ابن أبي داود ترجم باب رِضَى ابن مسعود -رضي الله عنه- بعد ذلك بما صَنَع عثمان -رضي الله عنه-، لكن لم يورد ما يُصَرِّح بمطابقة ما ترجم به. انتهى "فتح" ٧/ ٥٨ - ٥٩.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "غُلّوا مصاحفكم الخ": أي اكتموها، ولا تسلّموها، والتزموها إلى أن تلقوا الله تعالى بها، كما يفعل منْ غلّ شيئًا، فإنه يأتي به يوم القيامة، ويحمله، وكان هَذَا رأياً منه انفرد به عن الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يوافقه أحدٌ منهم عليه، فإنه كتم مصحفه، ولم يُظهره، ولم يقدِر عثمان -رضي الله عنه-، ولا غيره عليه أن يظهره، وانتشرت المصاحف التي كتبها عثمان، واجتمع عليها الصحابة فِي الآفاق، وقرأ المسلمون عليها، وتُرك مصحف عبد الله، وخَفِي إلى أن وُجد فِي خزائن بني عُبيد بمصر عند انقراض دولتهم، وابتداء دولة المعزّ، فأمر بإحراقه قاضي القضاة بها صدر الدين عَلَى ما سمعناه منْ بعض مشايخنا، فأُحرق. انتهى "المفهم" ٥/ ٣٧٣ - ٣٧٤.
(عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونِّي) بتشديد النون، ولفظ "الكبرى": "تأمرونني" بنونين (أَقْرَأُ) بالرفع، وهو عَلَى تقدير حرف مصدريّ: أي أن أقرأ، أي بالقراءة، وحذف الحرف المصدريّ، ورفع الفعل قياسيّ عَلَى الأرجح، كما فِي قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: ٢٤]، وَقَدْ تقدّم غير مرّة. وفي رواية مسلم:"أن أقرأ" بإثبات "أن".
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا إنكار منه عَلَى منْ يأمره بترك قراءته، ورجوعه إلى قراءة زيد، مع أنه سابقٌ له إلى حفظ القرآن، وإلى أخذه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،