الشيب، قَالَ به جماعة منْ الخلفاء، والصحابة، لكن لم يصر أحد إلى أنه عَلَى الوجوب، وإنما هو مستحبّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أنه نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى القول بالوجوب، كما تقدّم، وهو الظاهر؛ لظاهر الأمر، فتنبّه.
قَالَ: وَقَدْ رأى بعضهم أنّ ترك الخضاب أفضل، وبقاء الشيب أولى منْ تغييره، متمسّكين فِي ذلك بنهي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن تغيير الشيب عَلَى ما ذكروه، وبأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُغيّر شيبه، ولا اختضب.
قَالَ القرطبيّ: وهذا القول ليس بشيء، أما الْحَدِيث الذي ذكروه، فليس بمعروف، ولو كَانَ معروفًا، فلا يبلغ فِي الصحّة إلى هَذَا الْحَدِيث، وأما قولهم: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يَخضِب، فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصفرة. انتهى "المفهم" ٥/ ٤١٨.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: اختلفت الروايات فِي كونه -صلى الله عليه وسلم- خضب، فثبت عن أنس -رضي الله عنه- أنه سُئل أخضب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: لم يبلغ الشيب إلا قليلاً، وفي رواية: إنه لم يبلغ ما يَخضِب، لو شئت أن أعُدّ شمطاته فِي لحيته"، أي لعددتها. وثبت فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه -صلى الله عليه وسلم- خضب بالصفرة، وفي حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها أخرجت شعراً منْ شعر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، مخضوباً.
والجمع بين هذه الروايات، أن يقال: إن منْ جزم بأنه -صلى الله عليه وسلم- حضب، كابن عمر رضي الله تعالى عنهما، حكى ما شاهده، وكان ذلك فِي بعض الأحيان، ومن نفى، كأنس -رضي الله عنه-، فهو محمول عَلَى الأكثر الأغلب منْ حاله -صلى الله عليه وسلم-. وَقَدْ أخرج مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ منْ حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-، قَالَ: ما كَانَ فِي رأس النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولحيته منْ الشيب إلا شعرات، كَانَ إذا دهن واراهُنّ الدهن. قَالَ فِي "الفتح" ١١/ ٥٤٦ - : فيحتمل أن يكون الذين أثبتوا الخضاب شاهدوا الشعر الأبيض، ثم لَمّا واراه الدهن ظنّوا أنه خضبه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال بعيد، يبعده ما يأتي للمصنّف بعد باب منْ حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفّر بها -يعني الخلوق- لحيته … " الْحَدِيث. فالصحيح منْ الجمع الاحتمال الأول. والله تعالى أعلم.
(وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعة، منهم عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ومالك، قَالَ: وهو الظاهر منْ هَذَا الْحَدِيث،