وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "حسبت قوائمه حديدًا": هكذا صحيح الرواية، وذكره ابن قُتيبة، وَقَالَ:"بكرسيّ خُلْب" قَالَ: والخلب: الليف، وهو تصحيف منه، وإنما هو "خِلْتُ" كما رواه ابن أبي شيبة، وهو بمعنى "حسبت" الذي رواه مسلم. ووقع فِي نسخة ابن الحذّاء:"بكرسيّ خشب"، وهو أيضًا تصحيف، وصوابه ما قدّمناه، وَقَدْ فسّره حميد فِي كتاب ابن أبي شيبة، فَقَالَ: أراه كَانَ منْ عُود أسود، فحسبه منْ حديد. قلت: وأظنّ أن هَذَا الكرسيّ هو المنبر، ويعني به أنه نُقل عن موضعه المعتاد إلى موضع السائل؛ ليجلس عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى "المفهم" ٢/ ٥١٥.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كون الكرسي هَذَا هو المنبر النبويّ غير ظاهر، فليُتأمل. والله تعالى أعلم.
(فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-) إنما قعد -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الكرسيّ ليسمع الباقون كلامه، ويروا شَخْصَه الكريم -صلى الله عليه وسلم- (فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ) أي منْ الأحكام الشرعيّة التي يجهلها (ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ) أي محلّ خطبته، وهو المنبر المعروف (فَأَتَمَّهَا) أي أتمّ الخطبة التي بدأ بها، وفي رواية مسلم:"فأتمّ آخرها"، قَالَ القرطبيّ: أي لَمّا فرغ منْ تعليم الرجل رجع إلى أسلوب خطبته المتقدّم، لا يقال: إن هَذَا الفعل منه -صلى الله عليه وسلم- قطعٌ للخطبة لِمَا قرّرناه منْ أن تعليم العلم، والأمر، والنهي فِي الخطبة لا يكون قاطعاً للخطبة، والجمهور عَلَى أن الكلام فِي الخطبة لأمر يحدُث لا يفسدها. وحكى الخطّابيّ عن بعض العلماء أن الخطيب إذا تكلّم فِي الخطبة أعادها. انتهى "المفهم" ٢/ ٥١٥.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا القول الذي عزاه الخطّابيّ لبعض العلماء منْ إعادة الخطبة بسبب الكلام قول ضعيفٌ، منابذ للسنّة الصحيحة، كحديث الباب، وحديث قصّة سُليك الغطفانيّ -رضي الله عنه- حيث قَالَ له -صلى الله عليه وسلم- عن ركعتي تحية المسجد، وأمره بهما، إلى غير ذلك.
وكذا قول النوويّ فِي "شرحه" ٦/ ١٦٤: يحتمل أن تكون هذه الخطبة التي كَانَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيها خطبة أمر غير الجمعة، ولهذا قطعها بهذا الفصل الطويل. ويحتمل أنها كانت الجمعة، واستأنفها. ويحتمل أنه لم يحصل فصل طويل. ويحتمل أن كلامه لهذا الغريب كَانَ متعلّقاً بالخطبة، فيكون منها، ولا يضرّ المشي فِي أثنائها. انتهى.
فكلّ هذه الاحتمالات مما لا ينبني عَلَى دليل، فأين النصّ، أو الإجماع الذي يمنع الخطيب للجمعة منْ الكلام للحاجة، مثل التعليم، أو غيره، ومن أين اشتراط عدم الفصل أثناء الخطبة بكلام ونحوه، ومن الغريب قوله:"واستأنفها" مع أن نصّ "صحيح مسلم": "فأتمّ آخرها"، إن هَذَا لشيء عُجاب؟، وَقَدْ تقدّم تحقيق هَذَا كلّه فِي "كتاب