ثم قرّر أن المعجزة دالّة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما يدّعيه، ويبلّغه عن الله تعالى، وأنه لا يقول إلا حقّا، وأن المعجزة قائمة مقام قول الله تعالى له:"صدقت"، فلو جوّزنا عليه الغلط والسهو فيما يبلغه عن الله لاختلط الحق بالباطل، وحصل ضد المقصود من البعثة الذي دلّت عليه المعجزة، فتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك كله واجب شرعًا، وإجماعًا، كما قال الأستاذ.
قال العلائي -رحمه الله-: وفي كلام إمام الحرمين ما يشعر بخلاف في ذلك، وهو مؤول على إرادة القسم الثاني الذي ليس طريقه البلاغ، كما سيأتي.
وكذلك قال فخر الدين في "تفسيره": أما ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على عصمتهم فيه عن الكذب والتحريف، لا عمدًا ولا سهوًا، ومن الناس من جوّز ذلك سهوًا.
قال العلائي: وهذا كلام متناقض كما تراه، لأن هذا القائل إن كان ممن يعتدّ بخلافه، فكيف يكون إجماعًا؟، وإن لم يُعتدّ بخلافه، فلا أثر لقوله، وهو محجوج بالإجماع، فالصواب ما قاله القاضي عياض -رحمه الله-.
ثم قال القاضي عياض بعد ذلك: أما ما ليس سبيله سبيل البلاغ من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام، ولا أخبار المعاد، ولا تضاف إلى وحي، بل في أمور الدنيا، وأحوال نفسه، فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مُخْبَره، لا عمدًا ولا سهوًا، ولا غلطًا، وإنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك في حال رضاه وغضبه، وجدّه ومزاحه.
ودليل ذلك اتفاق المسلمين، وإجماعهم عليه، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره في أي باب كانت، وعن أي شيء وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف، ولا تردد في شيء منها، ولا استثبات عن حالة ما، هل وقع فيها سهو، أم لا؟.
وأيضًا فإن أخباره - صلى الله عليه وسلم -، وآثاره، وسيره، وشمائله معتنى بها، مستقصّى تفاصيلها، ولم يرد أصلًا في شيء منها استدراكه عليه الصلاة والسلام لغلط في قول قاله، ولا اعترافه بوهم في شيء أخبر به، ولو كان ذلك لنُقل كما نقل من قصته عليه السلام في رجوعه عما كان أشار به في تلقيح النخل، وكان ذلك رأيًا دنيويًا، لا خبرًا، ولا تشريعًا،
(١) أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، وغيرهم بإسناد صحيح.