للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ويمكن أن يجعل أسم "أنّ" قوله: "أن لا ينصرف"، وخبره الجارّ والمجرور، وهو "عليه"، ويُجعَل "حقّا"، أو "حتماً" حالاً من ضمير "عليه"، أي يرى أن عليه الانصراف عن يمينه فقط، حال كونه حقّا لازماً، والله تعالى أعلم انتهى (١).

(لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرَ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ) "رأى" هنا بصرية، ولذا لا تتعدّى إلا إلى واحد، وهو "رسول الله"، و"أكثر انصرافه" بالنصب بدل اشتمال من "رسول الله"، و"عن يساره" متعلق به، ويحتمل أن يكون "أكثر" بالرفع على الابتداء، وخبره الجارّ والمجرور، والجملة في محل نصب على الحال من "رسول الله".

وجملة القسم مستأنفة استئنافاً بيانيًّا، وقعت جوابا لسؤال مقدر، تقديره:

لماذا كان اعتقاد وجوب الانصراف عن اليمين نصيباً للشيطان؟ قال لأني قد رأيت أكثر انصراف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يساره.

والحاصل أن هذا الاعتقاد حظّ من حظوظ الشيطان من صلاة العبد, لأنه مخالف لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه كان ينصرف عن الجهتين، وأكثر انصرافه عن اليسار، فمن اعتقد وجوب الانصراف من جهة معيّنة، فقد خالف السنة، واتبع خُطُوات الشيطان. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: إن قيل: وقع التعارض بين حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا وبين حديث أنس -رضي الله عنه- الذي قبله، حيث عبّر كل منهما بأفعل التفضيل، فقال أنس -رضي الله عنه-: "أكثر ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينصرف عن يمينه"، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أكثر انصرافه عن يساره"، فكيف الجمع بينهما؟.

قلت: جمع العلماء بينهما بأوجه، فقال النووي رحمه الله: يجمع بينهما بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، فأخبر كلّ منهما بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود -رضي الله عنه- أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين.

وقال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يُجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يُحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لأن حُجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت من جهة يساره، ويُحمل حديث أنس على ما سوى ذلك، كحال السفر.

ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس -رضي الله عنهما- رُجّح ابن مسعود، لأنه أعلم، وأسنّ، وأكثر ملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تُكلّم فيه، وهو السدّيّ، وبأنه متّفق عليه، بخلاف حديث أنس في الأمرين،


(١) "شرح السندي" جـ ٣ ص ٨٢.