{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ينالوكم بمكروه (فقَدْ أَمِنَ النَّاسُ) أي ذهب خوفهم الذي كان سببًا لمشروعية القصر، فما بالهم يقصرون؟، أو فما وجه القصر مع زوال السبب؟ (فَقَالَ عُمَرُ - رضي اللَّه عنه -: عَجبْت) أنا (مِمَّا عَجِبْتَ مِنْه) أنت (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ؟) أي عن قصر الصلاة مع زوال الخوف، وحصول الأمن (فَقَالَ) - صلى اللَّه عليه وسلم - (صدَقَةٌ) خبر لحذوف، أي قصر الصلاة صدقة.
قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: أي شرع لكم ذلك رحمةً بكم، وإزالةً للمشقّة عنكم، نظرًا إلى ضعفكم، وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذُكر فيه من القيد، فهو اتفاقيّ ذكرُهُ على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عامّ، والقيد لا مفهوم له، ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قرّرهم على ذلك، ولكن بَيَّنَ أنه قد لا يكون معتبرًا أيضًا بسبب من الأسباب.
فإن قلت: يمكن التعجّب مع عدم اعتبار المفهوم أيضا، بناء على أن الأصل هو الإتمام، والقصر رخصة، جاءت مقيدةً لضرورة، فعنوإنتفاء القيد مُقتَضَى الأدلّة هو الأخذ بالأصل.
قلت: هذا الأصل إنما يُعمل به عند انتفاء الأدلّة، وأما مع وجود فعل النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بخلاف، فلا عبرة به، ولا يُتعجّب من خلافه، فليُتأمّل انتهى كلام السندي -رحمه اللَّه تعالى- (١).
وقال الإِمام ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من اللَّه، وشَرْعٌ شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الْجُنَاح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له انتهى.
(تَصَدَّقَ اللَّهُ) أي تفضل اللَّه تعالى (بَها عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية:{إِنْ خِفْتُمْ} , لأنه قد خرج مخرج الأغلب، لكون أغلب أسفار النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - وأصحابه لم تخل من خوف، لكثرة أهل الحرب إذ ذاك، فحينئذ لا تدلّ الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف, لأنه بيان للواقع إذ ذاك، فلا مفهوم له.
قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: الأمر يقتضي وجوب القبول، وأيضا العبد فقير، فإعراضه عن صدقة ربه يكون منه قبيحًا، ويكون من قبيل {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: ٧]، وفي ردّ صدق أحد عليه من التأذي عادةً ما لا يخفى، فهذه من أمارات الوجوب، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم انتهى.