الإفهام، وإنما يفهم المخاطَب الظاهر سواءٌ أقصده المتكلم أم قصد غيره. حتى لو فهم مخاطب خلاف الظاهر بغير قرينة لكان ملومًا لأنه خالف الدليل بغير دليل وردَّ الحجَّة بلا حجَّة. ولأن الكذب إنما قَبُح وحَرُم لما يترتَّب عليه من المفاسد، والمفاسدُ التي تترتب على الكذب الصريح يجيء مثلها في الخبر الذي ظاهره البيِّن كذب وقصد به المتكلم معنى صادقًا لا قرينة عليه. فمن المفاسد: استعمال الكلام في عكس الحكمة التي كان لأجلها، وهي تعاون الناس على معرفة ما يحتاجون إلى معرفته؛ فإن المعرفة إنما تحصل للمخاطب بإفهامك إياه الواقع، فإذا أفهمته خلاف الواقع فقد أوقعته في الباطل.
ومنها: ما يترتَّب عليه من المفاسد كأن يُقتل زيد ولا يُعلم قاتله، فيخبر رجلان أو ثلاثة ابنَه بأن بكرًا هو الذي قتل أباك، فيذهب ابنه فيقتل بكرًا ويكون خبرهم كذبًا. فالمفسدة واحدةٌ سواءٌ أرادوا من خبرهم ظاهرَه أم تأوَّلوا، كأن كانت أمُّ زيد في قرية أخرى مريضة فأخبره بكر بذلك ونصحه أن يزورها فخرج ليزورها فقُتل في الطريق، فتأولوا أن بكرًا لمَّا أشار على زيد بما كان سببَ قتلِه كأنه هو الذي قتله، ولكن لم يكن هناك قرينة صارفة يَعرف بها ابنُ زيد مقصودَهم.
ومنها: أن من عُرف بالكذب لم يعتدَّ الناس بخبره، فكأنه خرج من سلسلة التعاون الإنساني على المعرفة. فظَلَم الناس بأنه ينتفع بهم ولا ينفعهم، بل عُرف بالإضرار بهم، وظَلَم نفسَه بسقوط الاعتداد به. ومثله في ذلك من عُرف بكثرة الأخبار التي ظاهرها البيِّن كذب، فإنه لا يُؤمن في كل