عندنا تأخُّر قائله، كما أنه إذا كان بخلاف ذلك لم يرفعه تقدمه".
وقال في أوائل كتابه "الشعر والشعراء": "ولم أقصد فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلاًّ حقه، ووفرت عليه حظه، فإنّي رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه ورأى قائله. ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده، وجعل كل قديم منهم حديثًا في عصره، وكل شريف خارجيًّا في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل يعدون مُحْدَثين، وكان أبو عَمرو بن العلاء يقول:"لقد نبغ هذا المُحْدَث وحَسُن حتى لقد هممت بروايته".
"ثم صار هؤلاء قدماء عندنا بِبُعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ، فكل من أتى بحَسَنٍ من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا عليه به، ولم يضعه عندنا تأخر قائله، ولا حداثة سنه، كما أنّ الرديء إذا ورد علينا للمتقدم والشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه".
أقول: الظنّ بالعلماء أنهم إنما كانوا يظهرون التعصب للمتقدمين ترغيبًا للناس في حفظ أشعارهم وروايتها؛ لأنّها حجة في اللغة والعربية، فالشعر القديم حتى الرديء منه صالح لأن يحتجّ به في تثبيت اللغة وقواعد العربية وتفسير القرآن وشرح السنة؛ والشعر المولَّد حتى ما كان منه بغاية الجودة لا