وأما من يعترف بأن العمل بهذا النوع من الفتيا ليس تقليدًا، فهو يرى بطلانَ التقليد من أصله، وهذا هو الأصل الذي ندعو إليه، وإنما أردنا أن نُثبت أن العمل بالطريق التي ندعو إليها صحيح اتفاقًا، وذلك أننا نقول: إن العالم منا يجتهد قدرَ وُسْعِه، وينظر في أدلة المجتهدين المشهورين، ثم يعمل بالراجح من الأدلة، ولابدَّ أن يكون موافقًا لأحدهم. فمن اعترف ببطلان التقليد فإنه يُصحِّح عملَنا، لأنه هو الفرض المتعيَّن علينا، إذ قد اجتهدنا في الأدلة وأخذنا بالراجح. وأما مَن يزعم صحةَ التقليد فإنه يصحِّح عملنا أيضًا، لشرطِنا موافقةَ أحد المجتهدين المشهورين. وأما المتحيِّر فإنه يرى أن عملنا صحيح على كلا التقديرين، والحمد لله رب العالمين.
وكما أن جمهور علماء المقلِّدين قائلون بجواز أن يقلِّد الإنسان مَن شاء من الأئمة في حقِّ نفسه مع تجزئة التقليد، فكذلك محققوهم قائلون بجواز تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى. وأما نحن فنقول: إنما منعَ بعضُهم تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى لأمرين:
الأول: خشية أن يكون الحاكم والمفتي رقيقَ الدين، فيتبع هواه، فإذا جاءه أحد الخصمين أو السائل بعَرَضٍ من الدنيا حكمَ له أو أفتاه بالمذهب الذي وافق هواه، وإذا جاءه خصمه بعَرَضٍ أكثر حكم بالمذهب الآخر، فاتخذ دينَ الله لُعبةً وشبكةً يصطاد بها أعراض الدنيا.
الثاني: أن القضاء يحتاج إلى توليةٍ من السلطان، وكذلك تبعتْه الفتوى في الأزمنة الأخيرة، وجرت عادة السلاطين أن يُعيِّنوا للقاضي أو المفتي مذهبًا معيَّنًا ليقضي أو يفتي به.
وأيضًا فالمفتي وإن لم يكن مُولًّى من قِبل السلطان جرت العادة أنه