ثم يَرِد عليه أيضًا أنَّ المشركين لم يكونوا يعتقدون للأصنام قدرةً ما ولا تأثيرًا، وإنما هي عندهم تماثيل للملائكة، فيقولون: إنَّ الصنم إذا جُعل تمثالًا للملَك ورمزًا له صار له علقةٌ معنويةٌ بالملك، بحيث يكون تعظيمُ الصنم تعظيمًا لذلك الملك، كما جرت به العادة في احترام تماثيل البشر العظماء أنه معدود عند الناس احترامًا لصاحب التمثال، ومع ذلك سميت الأصنام آلهة، وتعظيمها عبادة.
وقد بقي وجوه أخرى لا أطيل بها.
والذي تلخَّص لي في "رسالة العبادة"(١) بعد النظر في النصوص القرآنية ومقابلة بعضها ببعض، والنظر في أحوال المشركين من الأمم المختلفة وغير ذلك= أن العبادة هي: خضوعٌ يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وأردت بالخضوع ما يشمل الطاعة والتعظيم، وبالنفع الغيبي ما هو وراء الأسباب العادية.
ثم إن كان ذلك الخضوع مأذونًا فيه من الله تعالى بسلطان بيِّن وبرهان واضح، فلا يكون إلا عبادةً له سبحانه وتعالى، سواء أكان في الصورة له كالالتجاء والتضرع إليه، أم كان في الصورة لغيره كالطواف بالكعبة وتقبيل الحجر الأسود ووضع الجبهة عليه، وكلِّ ما كان عليه برهان من الله وسلطان منه، من الثناء على الملائكة والصلاة عليهم، والثناء على الأنبياء والصالحين واحترامهم وغير ذلك. وإن لم يكن به برهانٌ من الله عزَّ وجلَّ ولا سلطانٌ منه، فهو عبادةٌ لغيره، ولا يكون شيء [ل ٦٠/أ] من هذا إلا وفيه خضوع لغير الله عزَّ وجلَّ. ومن ذلك: الأحبار والرهبان والرؤساء والآباء والشيطان والهوى.