وإن كان يفهم منها معنًى غير الذي نفهمه فنحن نبيّن له المعنى الذي نفهمه: أن التعمّد يشمل من يعلم أن خبره مخالف للواقع أو يظن ذلك أو يجوِّزه تجويزًا لا يبلغ من الضعف أن لا يحضر في نفس المخبر، وعلى هذا فلا يخرج إلا من يعتقد أن خبره مطابق للواقع اعتقادًا لا تخالطه أدنى ريبة.
[ص ٨] وأنا نفسي جَرَت لي قضية علمت بها يقينًا أن الإنسان الضابط قد يشاهد واقعةً مشاهدةً لا لبس فيها، ثم يعرض له ما يجعله بعد يومين أو أكثر يقطع قطعًا باتًّا بخلاف الواقع فيها، ثم يعرض ما ينبهه على خطائه فيزول القطع السابق.
وقد أخبر عمر بن الخطاب وابنه عبد الله خبرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر الناسُ عائشةَ بذلك فأنكرته، وقالت:"إنكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذَّبِين، ولكن السمع يخطئ ... " إلخ. وقد ذكره بنحوه أبو ريَّة ص ٥٠.
وبهذه المناسبة ننظر في حقيقة الكذب: ذهب الجمهور ــ كما يقولون ــ إلى أنه الخبر المخالف للواقع. وذهب جماعة من أشهرهم الجاحظ إلى أنه لابدّ مع المخالفة للواقع أن يكون مخالفًا لِما في نفس المخبر, ومعنى هذا أن قيد التعمّد [ص ٩] في مفهوم الكذب، فما لم يكن متعمَّدًا فليس بكذب. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ، ولكنه هنا لم يعرِّج على قوله لمخالفته هواه.
والحكاية التي ذكرها عن عائشة قد تشهد لقول الجاحظ.
والتحقيق عندي أنه إذا [قيل: ](١)"هذا القول كذب" ونحو ذلك، كما
(١) زيادة يستقيم بها السياق، وبقي مما لم يضرب عليه المؤلف قوله: "من حيث" ولا مكان لها.