نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن من الحكمة في إنشاء الله الخلق هذه النشأة أن يبلوهم أيهم أحسن عملًا، ويبلو ما في نفوسهم ويمحّص ما في قلوبهم؛ فاقتضى ذلك أن يكون في كتاب الله مع الآيات المحكمات آيات متشابهات، ونحو ذلك مما يُبرِز مرض المريض؛ كإخباره بما يستبعده عُبَّاد العادة، وبما تنكره العقول المصطنعة، وكضَرْبه المثل ببعوضة فما فوقها، وإقسامه بما أقسم به، وإخباره عن النار بأن عليها تسعة عشر، وغير ذلك مما المقصود منه أن تُبرَز خفايا النفوس؛ فمَن كان من أهل العلم والإيمان لم يزحزحه ذلك، بل إن فَهِم وإلا قال:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران: ٧]. وإن كان مِن مرضى القلوب وجد متنفّسًا ينفث عنده مقتضى مرضه؛ ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
فإذا وجدوا في السنة من هذا القبيل لم يستنكروه.
نريد نُقَّادًا مؤمنين حقًّا يعرفون أثر الدين والإيمان والهدى والعلم على النفوس، فيَعلم أحدُهم أنه لو بُذِل له ملك الدنيا على أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كذب [ص ٣]، فإذا عرفوا رجلًا بأنه مثلهم في ذلك أو خير منهم لم يردّوا خبرَه لمجرّد احتمال أنه يوافق غرضًا له.
هذه أمثلة من الفوارق يريد أصحاب النقد التاريخي إهمالها؛ فيتطرّقوا في نقد الحديث إلى أن يشكّوا في كلّ خبر فيه ثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فضيلة له أو تبرئة من تهمة أو تأييد للإسلام، بعِلّة أن رواته مسلمون يُتَّهمون في تأييد دينهم ومدح نبيّهم. ثم يأخذوا في نقد القرآن فلا يُبقوا ولا يذروا.
هذا هو الهدف الذي يدعو إليه كتاب أبي ريَّة، شَعَر بذلك أم لم يشعر.