شديدةٌ لأسبابٍ، منها: أن يكون اتِّفاقها نادرًا، والفقهاء يلاحظون هذا، قالوا: لو أخطأ الحُجَّاج فوقفوا عاشر ذي الحجَّة أجزأهم حجُّهم، ولو أخطؤوا فوقفوا حادي عشره كان عليهم القضاء لندرة الخطأ بيومين (١). والثلاثة الأمثلة مما يندر، فما كلُّ أحدٍ يشقُّ عليه ترك دين آبائه ولا يتَّفق له ذلك إلا مرَّةً في عمره، والعاشق يندر أن يصادف معشوقته في خلوةٍ بدون تحرِّيه ذلك، ومدمن الخمر إذا أسلم فعزم على تركها إن شقَّ عليه ذلك فأيَّامًا معدودةً ثم ينساها أبدًا.
ومنها: أن تكون المفسدة التي تترتَّب على الفعل عظيمة، ولهذا قالوا: لو أكره على قتل مؤمنٍ لم يجز له، وعظم المفسدة في الأمثلة ظاهرٌ.
ومنها: أن لا تنضبط المشقَّة وتترتَّب على الفعل مفسدةٌ عظيمةٌ، كمن أُغْضِبَ فجنى على إنسان وادَّعى أن المجنيَّ عليه أغضبه فلم يَتَمالَكْ نفسه أن جنى عليه. فإنه لا دليل على أن الغضب بلغ ذلك المبلغ، ولو رُخِّصَ له لادَّعى أكثرُ الجناة مثلَ ذلك؛ إذ أكثر ما يقع القتل عند الغضب، بل لربما استحلَّ المغْضَبُ القتلَ لتوهُّمِه أنه قد بلغ به الغضبُ ذلك الحدِّ. ويأتي هذا في تلك الأمثلة، فإن المفسدة فيها عظيمة كما مرّ، ولو رُخِّصَ لهم لاستحلَّ الكافر المتبصِّر البقاءَ على دين آبائه لتوهُّمه أن المشقَّة شديدةٌ، وأن الله تعالى لا يكلِّفه بتحمُّلها. وكذلك الآخران، وإذًا لأوشك أن يدَّعيَ كلُّ زانٍ وكلُّ شاربِ خمرٍ نحوَ تلك الدعوى.
ومنها: أن تكون المشقة ناشئة عن مخالفة من المكلَّف لولاها لم يقع في المشقة، بل ربما ألغى الشارع هذه المشقَّةَ ولو خرجت عن الوُسْعِ بل
(١) انظر: منح الجليل ١/ ٤٧٦، شرح المحلِّي على المنهاج ٢/ ١٨٥.