للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غيرها، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه صانع ماهر، فهكذا قد يكون الرجل ماهرًا في العربية فقط كسيبويه، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه عالم علَّامة إمام.

وكان أهل القرون الأولى من الورع والمعرفة بحيث إن العالم بفنٍّ لا يتعاطى الكلام في غيره، والعامَّة لا يسألون في كلِّ علمٍ إلَّا من عُرِفَتْ له الإمامةُ فيه. فكان الناس في بغداد في زمن المأمون وما بعده مَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الحديث وفقهه سأل الإمام أحمد وأضرابه، ومَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الرأي والقياس سأل أصحاب الإمام أبي حنيفة، ومَنْ أحبّ أن يسأل عن شيء من العربية سأل أصحاب الكسائي وأضرابهم، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شيء من الورع وأمراض القلب سأل أضراب بشر الحافي وأصحابه، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شي من [٤٥] المغازي والأخبار سأل أصحاب الواقدي وأمثالهم، وقس على ذلك.

وقد كان جماعة من أئمة الحديث المضروب بهم المثل إذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية يقول للسائل: سَل الفقهاء.

ولكن في العصور الوسطى تغيَّر الحال، فكم من عارف بفنٍّ خاصٍّ تعاطى الكلام في غيره، واغترَّت العامة بشهرته فقلَّدوه في جميع العلوم.

وبالجملة فمزايا السلف كثيرة، وحسبك قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».

والحديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعةٍ من الصحابة (١)، وفي


(١) منهم: ابن مسعودٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في كتاب الشهادات، بابٌ لا يشهد على جَوْرٍ إذا أُشْهِد، ٣/ ١٧١، ح ٢٦٥٢. ومسلمٌ ــ كما سيأتي ــ. ومنهم: عمران بن حُصَينٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في الموضع السابق، ٣/ ١٧١، ح ٢٦٥١. ومسلمٌ في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ٧/ ١٨٥، ح ٢٥٣٥. ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه. أخرج حديثه مسلمٌ في الموضع السابق، ٧/ ١٨٥، ح ٢٥٣٤.