للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر، ويقال إِنَّ الْبَرَامِكَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ إِبْطَالَ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ وإظهار الزندقة. وقيل إنما قتلهم بِسَبَبِ الْعَبَّاسَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وإن كان ابن جرير قد ذكره.

وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله الْبَرَامِكَةَ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ قَمِيصِي يَعْلَمُ ذَلِكَ لَأَحْرَقْتُهُ. وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ يَدْخُلُ عَلَى الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ مَعَ حَظَايَاهُ- وَهَذِهِ وجاهة ومنزلة عالية- وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر- فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر- وَكَانَ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ أُخْتُهُ الْعَبَّاسَةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ يُحْضِرُهَا مَعَهُ، وَجَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ حَاضِرٌ أيضا معه، فزوجه بها ليحل النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأْهَا. وكان الرَّشِيدُ رُبَّمَا قَامَ وَتَرَكَهُمَا وَهُمَا ثَمِلَانِ مِنَ الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت مِنْهُ فَوَلَدَتْ وَلَدًا وَبَعْثَتْهُ مَعَ بَعْضِ جَوَارِيهَا إلى مكة، وكان يربى بها.

وذكر ابن خلكان أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حُبًّا شَدِيدًا، فَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ أَشَدَّ الامتناع خوفا من الرشيد، فاحتالت عليه- وكانت أمه تهدي له فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ جَارِيَةً حَسْنَاءَ بِكْرًا- فقالت لأمه: أدخليني عليه بصفة جارية. فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك. فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فَوَاقَعَهَا فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ خَدِيعَةَ بَنَاتِ الملوك؟

وَحَمَلَتْ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فقال: بِعْتِينِي وَاللَّهِ بِرَخِيصٍ. ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ جَعَلَ يُضَيِّقُ عَلَى عِيَالِ الرَّشِيدِ في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَفْشَتْ لَهُ سِرَّ الْعَبَّاسَةِ، فَاسْتَشَاطَ غيظا، وَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ أَرْسَلَتْ بِهِ إلى مكة حج عام ذَلِكَ حَتَّى تَحَقَّقَ الْأَمْرَ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْجَوَارِي نَمَّتْ عَلَيْهَا إِلَى الرَّشِيدِ وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا وقع، وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلى كثيرة. فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، ثم كشف الأمر عن الحال، فإذا هو كما ذكر. وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد، فَجَعَلَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَعْبَةِ:

اللَّهمّ إِنْ كَانَ يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك وَأَبْقِ عَلَيَّ مِنْهُمُ الْفَضْلَ، ثُمَّ خَرَجَ. فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ فَقَالَ: اللَّهمّ وَالْفَضْلُ مَعَهُمْ فَإِنِّي رَاضٍ بِرِضَاكَ عَنِّي وَلَا تَسْتَثْنِ مِنْهُمْ أَحَدًا.

فَلَمَّا قَفَلَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ صَارَ إِلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ رَكِبَ فِي السُّفُنِ إِلَى الْعُمْرِ [١] مِنْ أَرْضِ الْأَنْبَارِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السنة أَرْسَلَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ وَمَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَالِمٍ أَبُو عِصْمَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَأَطَافُوا بِجَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى لَيْلًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَسْرُورٌ الخادم وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركانة الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في أمره وسروره، وَأَبُو زَكَّارٍ [٢] يُغَنِّيهِ:

فَلَا تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتًى سَيَأْتِي ... عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَطْرُقُ أَوْ يُغَادِي

فَقَالَ الْخَادِمُ لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا الْمَوْتُ قَدْ طُرَقَكَ، أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَامَ إِلَيْهِ يقبل


[١] العمر: بضم العين، وفي نسخ البداية المطبوعة الغمر، وقال البكري في معجم ما استعجم: قلاية العمر والعمر عندهم: الدير، والعمر: من السريانية (عمرا) وهي تعني البيت ثم خصصت بالدير. أما القلاية فهي صومعة الراهب. وبضم الدير على هذا عدة قلايات.
[٢] من الطبري وابن الأثير والفخري. وفي الأصل: أبو ركانة

<<  <  ج: ص:  >  >>