له رجل: إلى مجانبنا أرملة لها أربعة أولاد وهم عراة وجياع، فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاما، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد، وقال: والله لا ألبسها حتى ترجع إلى بخبرهم، فذهب الرجل مسرعا بما أرسله على يديه إليهم، ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير، فسر بذلك ولبس ثيابه. وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها، فأرسلها كلها إلى المساجد، وكانت كثيرة جدا، فأطعمها الفقراء والعميان وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصتهم وعامتهم، ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة ثم مرض، فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبويّة فقال: يا رسول الله قال الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاِسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً﴾ وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وأرجو شفاعتك يوم القيامة، ثم مات من يومه ذلك ﵀، ودفن في البقيع.
[القاضي أبو بكر الشاشي]
محمد بن المظفر بن بكران الحموي أبو بكر الشاشي، ولد سنة أربعمائة، وتفقه ببلده، ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقدم بغداد فتفقه على أبى الطيب الطبري وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدامغانيّ فقبله، ولازم مسجده خمسا وخمسين سنة، يقرئ الناس ويفقههم، ولما مات الدامغانيّ أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدى القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفّهم، لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صاحب هدية، ولم يغير ملبسه ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجرا ولم يستنب أحدا، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقا، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقرّوا، ويذكر أن في كلام الشافعيّ ما يدل على هذا. وقد صنف كتابا في ذلك، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى ﴿إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾ الآية. وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين يقال له المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني، فلم يقبله، لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب، فقال له المدعى:
إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب، فقال القاضي الشاشي: والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما. وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لأى شيء ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت؟ فقال له: لا أقبل لك شهادة، فانى رأيتك تغتسل في الحمام عريانا غير مستور العورة، فلا أقبلك. توفى يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالقرب من ابن شريح.