من شرائع الإسلام أشد تضييعا. وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الموعوظ. وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل، ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك. وكتب إلى بعض عماله: أذكر ليلة تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيا لها من ليلة ويا له من صباح، وكان يوما على الكافرين عسيرا. وكتب إلى آخر: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قالوا: فخلع هذا العامل نفسه من العمالة وقدم على عمر فقال له: مالك؟ فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبدا.
[فصل]
وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى انه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى انه ترك التمتع بزوجته الحسناء، فاطمة بن عبد الملك، يقال كانت من أحسن النساء، ويقال إنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم. وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم، وكان له من الأولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال إنه كان خيرا من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه، وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما ولى الخلافة كان بعد ذلك بلبس القميص الغليظ المرقوع ولا يغسله حتى يتسخ جدا، ويقول: ما أحسنه لولا لينه. وكان يلبس الفروة الغليظة، وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئا في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما تركت شيئا من الدنيا إلا عوضني الله ما هو خير منه، وكان يأكل الغليظ ولا يبالي بشيء من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده، حتى قال أبو سليمان الدارانيّ: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لأن عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون؟ ليس من جرب كمن لم يجرب. وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز. وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئا، وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ المروحة من يدها وجعل