للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ، كَسَرَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ سَاقَيْهِ ثُمَّ فخذيه، ثم صدره، فمات ولا يَتَكَلَّمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَلَا تَأْوَّهَ حَتَّى خَرَجَتْ روحه رحمه الله.

قال الليثي عَنْ أَبِيهِ: خَطَبَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا فَارْتَجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَجِيءُ أَحْيَانًا وَيَعْزُبُ أَحْيَانًا، فَيَتَسَبَّبُ عِنْدَ مَجِيئِهِ سَبَبُهُ وَيَتَعَذَّرُ عِنْدَ عُزُوبِهِ مَطْلَبُهُ، وَقَدْ يُرَدُّ إلى السليط بيانه ويثيب إِلَى الْحَصْرِ كَلَامُهُ، وَسَيَعُودُ إِلَيْنَا مَا تُحِبُّونَ، وَنَعُودُ لَكُمْ كَمَا تُرِيدُونَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: خَطَبَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا بِوَاسِطَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَافَسُوا فِي الْمَكَارِمِ وَسَارِعُوا إِلَى الْمَغَانِمِ وَاشْتَرُوا الْحَمْدَ بِالْجُودِ، وَلَا تَكْتَسِبُوا بِالْمَطْلِ ذَمًّا، وَلَا تَعْتَدُّوا بِمَعْرُوفٍ لَمْ تُعَجِّلُوهُ، وَمَهْمَا تكن لِأَحَدٍ مِنْكُمْ نِعْمَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ لَمْ يَبْلُغْ شُكْرَهَا فاللَّه أَحْسَنُ لَهُ جَزَاءً، وَأَجْزَلُ عَطَاءً، وَاعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ نِعَمٌ فَلَا تَمَلُّوهَا فَتُحَوَّلَ نِقَمًا، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْمَالِ مَا كسب أَجْرًا وَأَوْرَثَ ذِكْرًا، وَلَوْ رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ لَرَأَيْتُمُوهُ رجلا حسنا جميلا يسر الناس إذا نظروا إليه، وَيَفُوقُ الْعَالَمِينَ. وَلَوْ رَأَيْتُمُ الْبُخْلَ لَرَأَيْتُمُوهُ رَجُلًا مُشَوَّهًا قَبِيحًا تَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَتُغَضُّ دُونَهُ الْأَبْصَارُ. إِنَّهُ مَنْ جَادَ سَادَ، وَمَنْ بَخِلَ ذَلَّ، وَأَكْرَمُ النَّاسِ مَنْ أَعْطَى مَنْ لَا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، وَمَنْ لَمْ يَطِبْ حَرْثُهُ لَمْ يَزْكُ نَبْتُهُ، وَالْفُرُوعُ عِنْدَ مَغَارِسِهَا تَنْمُو، وَبِأُصُولِهَا تَسْمُو. وَرَوَى الأصمعي عن عمر ابن الْهَيْثَمِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَدِمَ عَلَى خَالِدٍ فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً امْتَدَحَهُ بِهَا يَقُولُ فِيهَا:

إِلَيْكَ ابْنَ كُرْزِ الْخَيْرِ أَقْبَلْتُ رَاغِبًا ... لِتَجَبُرَ مِنِّي مَا وها وَتَبَدَّدَا

إِلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْحِلْمِ وَالنَّدَى ... وَأَكْرَمِ خَلْقِ اللَّهِ فَرْعًا وَمَحْتِدَا

إِذَا مَا أناس قصروا بفعالهم ... نهضت فلم تلقى هنالك مفقدا

فيا لك بَحْرًا يَغْمُرُ النَّاسَ مَوْجُهُ ... إِذَا يُسْأَلُ الْمَعْرُوفَ جَاشَ وَأَزْبَدَا

بَلَوْتُ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... فَأَلْفَيْتُ خَيْرَ النَّاسِ نَفْسًا وَأَمْجَدَا

فَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّاسِ خَالِدٌ ... لِجُودٍ بِمَعْرُوفٍ لَكُنْتُ مُخَلَّدًا

فَلَا تَحْرِمَنِّي مِنْكَ مَا قَدْ رَجَوْتُهُ ... فَيُصْبِحَ وَجْهِي كَالِحَ اللَّوْنِ أَرْبَدَا

قَالَ: فَحَفِظَهَا خَالِدٌ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ خَالِدٍ قَامَ الْأَعْرَابِيُّ يَنْشُدُهَا فَابْتَدَرَهُ إِلَيْهَا خَالِدٌ فَأَنْشَدَهَا قَبْلَهُ، وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ إِنَّ هَذَا شِعْرٌ قَدْ سَبَقْنَاكَ إِلَيْهِ. فَنَهَضَ الشَّيْخُ فَوَلَّى ذَاهِبًا فَأَتْبَعَهُ خَالِدٌ مَنْ يَسْمَعُ مَا يَقُولُ فَإِذَا هُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.

أَلَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَرْتَجِي ... لَدَيْهِ وَمَا لَاقَيْتُ مِنْ نَكَدِ الْجُهْدِ

دَخَلْتُ عَلَى بَحْرٍ يَجُودُ بِمَالِهِ ... وَيُعْطِي كَثِيرَ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْحَمْدِ

فَخَالَفَنِي الْجَدُّ الْمَشُومُ لِشِقْوَتِي ... وَقَارَبَنِي نَحْسِي وَفَارَقَنِي سَعْدِي

<<  <  ج: ص:  >  >>