للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخلقا، وعنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ. وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، جَوَادًا مُمَدَّحًا، اتَّفَقَ فِي أَيَّامِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَرَكِبَتْهُ ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيرا في أمره، ثم باعها الّذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبى حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الأول- الّذي باعها في الدين- ببعض أصحاب ابن أبى حامد في أن يردها إليه بثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء. فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبى حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتِ اشْتَرَتْهَا لَهُ وَلَمْ تُعْلِمْهُ بَعْدُ بِأَمْرِهَا حَتَّى تَحِلَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنعتها له وهيأتها، حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أَمْرِهَا بُهِتَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا. ثُمَّ دَخَلَ على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على تلك الصفة فرح فرحا شديدا إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول، الّذي تشفع فيه صاحبه. فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له: هذه جاريتك؟

فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر اضْطَرَبَ كَلَامُهُ وَاخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ مِمَّا رَأَى من حسن منظرها وهيئتها. فقال: نعم. فقال: خُذْهَا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَفَرِحَ الْفَتَى بها فرحا شديدا. وقال سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك؟ فقال: لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فانى أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك. فقال: يا سيدي وهذا الْحُلِيُّ وَالْمَصَاغُ الَّذِي عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ وهبناه لها لا نرجع فيه ولا يعود إلينا أبدا، فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب. فلما أراد أن يودع ابن أبى حامد قال ابن أبى حامد للجارية:

أيما أَحَبَّ إِلَيْكِ نَحْنُ أَوْ سَيِّدُكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ: أما أنتم فقد أحسنتم إلى وأعنتمونى فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا سَيِّدِي هَذَا فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ مِنْهُ مَا مَلَكَ مِنِّي لَمْ أبعه بالأموال الجزيلة ولا فرطت فيه أبدا. فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا، مَعَ صِغَرِ سِنِّهَا.

شَغَبُ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرِ باللَّه الْمُلَقَّبَةُ بِالسَّيِّدَةِ

كان دخلها من أَمْلَاكِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، فكانت تَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرِ ذَلِكَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي أَشْرِبَةٍ وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد. وكانت في غاية الحشمة والرئاسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مَرَضًا إِلَى مَرَضِهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْقَاهِرِ فِي الْخِلَافَةِ وَهُوَ ابْنُ زَوْجِهَا الْمُعْتَضِدِ وَأَخُو ابنها المقتدر، وَقَدْ كَانَتْ حَضَنَتْهُ حِينَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَخَلَّصَتْهُ من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها،

<<  <  ج: ص:  >  >>