للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك (١). توفي بمكة في المحرم من هذه السنة. وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ [الحديد: ١٦] فقال: بلى! وتاب وأقلع عما كان عليه. ورجع إلى خربة فبات بها فسمع سفارا يقولون: خذوا حذركم إن فضيلا أمامكم يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة، ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله.

قال الفضيل: لو أن الدنيا كلها حلال أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه، وقال: العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال له الرشيد يوما: ما أزهدك، فقال: أنت أزهد مني، لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي. ومن زهد في درة أزهد ممن زهد في بعرة. وقد روى مثل هذا عن أبي حازم أنه قال ذلك لسليمان بن عبد الملك.

وقال: لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام، لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد. وقال: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي. وقال في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: ٧]. قال: يعني أخلصه وأصوبه، إن العمل يجب أن يكون خالصا لله، وصوابا على متابعة النبي . وفيها توفي:

بشر بن المفضل، وعبد السلام بن حرب، وعبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ، وعبد العزيز العمي، وعلي بن عيسى، الأمير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة. ومعتمر بن سليمان وأبو شعيب البراثي الزاهد، وكان أول من سكن براثا في كوخ له يتعبد فيه، فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة، وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا، يقال إن اسمها جوهرة.

[ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة]

فيها غزا إبراهيم بن إسرائيل (٢) الصائفة فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف فخرج النقفور للقائه فجرح النقفور ثلاث جراح، وانهزم وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفا، وغنموا أكثر من أربعة آلاف دابة. وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق. وفيها حج بالناس الرشيد، وكانت آخر حجاته. وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفا من الحج - وقد اجتاز بالكوفة - لا يحج الرشيد بعدها، ولا يحج بعده خليفة أبدا. وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة، فروينا من طريق الفضل بن الربيع الحاجب قال: حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي، فقلت: اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت. فلما حاذاه الهودج قال: يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نائل (٣)، ثنا قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثمّ طرد ولا ضرب ولا إليك إليك. قال الربيع فقلت: يا أمير المؤمنين إنه بهلول، فقال: قد عرفته، قل يا بهلول فقال:


(١) لعل المؤلف ذكر الرواية في كتاب آخر وسها عن ذلك فأثبت ملاحظته هنا ولم يأت على ذكرها في كتابنا. وقد ذكر المسعودي رواية بهذا المعنى بينه وبين الرشيد مروج الذهب: ٣/ ٤٣٤ ووفيات الأعيان ٤/ ٤٨. وصفة الصفوة ٢/ ٢٤٥.
(٢) في الطبري ١٠/ ٩٥ جبريل وابن الأثير ٦/ ١٩٠: جبرائيل.
(٣) في صفة الصفوة ٢/ ٥١٧: نابل. وهو أبو عمران ويقال أبو عمرو الحبشي المكيّ نزيل عسقلان صدوق يهم، من الخامسة. (انظر تقريب التهذيب ١/ ٨٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>