للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ الْمَأْمُونَ جَلَسَ يَوْمًا لِلنَّاسِ وَفِي مَجْلِسِهِ الأمراء والعلماء، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ تَتَظَلَّمُ إِلَيْهِ فَذَكَرَتْ أَنَّ أَخَاهَا تُوُفِّيَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا سوى دينار واحد. فقال لها المأمون عَلَى الْبَدِيهَةِ: قَدْ وَصَلَ إِلَيْكِ حَقُّكِ، كَأَنَّ أَخَاكِ قَدْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ وَأُمَّا وَزَوْجَةً وَاثْنَيْ عشر أخا وأختا واحدة وَهِيَ أَنْتِ، قَالَتْ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، بقي خمسة وعشرون دينارا لكل أخ ديناران ديناران، ولك دينار واحد.

فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وَسُرْعَةِ جَوَابِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ على بن أبى طالب.

وَدَخَلَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ عَلَى الْمَأْمُونِ وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ يَرَاهُ عَظِيمًا، فَلَمَّا أنشده إياه لم يقع منه موقعا طائلا، فخرج من عنده محروما، فلقيه شاعرا آخر فقال له: أَلَا أُعَجَّبُكَ! أَنْشَدْتُ الْمَأْمُونَ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا. فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ قُلْتُ فِيهِ:

أَضْحَى إِمَامُ الْهُدَى الْمَأْمُونُ مُشْتَغِلًا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقال له الشَّاعِرُ الْآخَرُ: مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ جَعَلْتَهُ عَجُوزًا فِي مِحْرَابِهَا. فَهَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ جرير في عبد العزيز بن مروان:

فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُضَيِّعٌ نَصِيبَهُ ... وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ شَاغِلُهُ

وَقَالَ الْمَأْمُونُ يوما لبعض جلسائه: بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أَحَدٌ، قَوْلُ أَبِي نُوَاسٍ:

إِذَا اخْتَبَرَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لِبَاسِ صَدِيقِ

وَقَوْلُ شُرَيْحٍ:

تَهُونُ عَلَى الدُّنْيَا الْمَلَامَةُ إِنَّهُ ... حَرِيصٌ عَلَى اسْتِصْلَاحِهَا مَنْ يَلُومُهَا

قَالَ الْمَأْمُونُ: وَقَدْ أَلْجَأَنِي الزِّحَامُ يَوْمًا وَأَنَا فِي الْمَوْكِبِ حَتَّى خَالَطْتُ السُّوقَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا فِي دُكَّانٍ عَلَيْهِ أَثْوَابٌ خَلِقَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظَرَ من يرحمني أو من يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِي فَقَالَ:

أَرَى كُلَّ مَغْرُورٍ تُمَنِّيهِ نَفْسُهُ ... إِذَا مَا مَضَى عَامٌ سَلَامَةَ قَابِلِ

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ يَوْمَ عِيدٍ خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: عِبَادَ الله! عظم أمر الدارين وارتفع جزاء العالمين، وطالت مدة الفريقين، فو الله إِنَّهُ لَلْجِدُّ لَا اللَّعِبُ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ لَا الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ وَالْحِسَابُ والفصل والميزان والصراط ثم العقاب أو الثواب، فَمَنْ نَجَا يَوْمَئِذٍ فَقَدْ فَازَ. وَمَنْ هَوَى يَوْمَئِذٍ فَقَدْ خَابَ، الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي النَّارِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا نَضْرُ؟ فقلت: بِخَيْرٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا الْإِرْجَاءُ؟ فَقُلْتُ دِينٌ يُوَافِقُ الْمُلُوكَ يُصِيبُونَ بِهِ مِنْ دنياهم وينقصون به مِنْ دِينِهِمْ. قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا نَضْرُ أَتَدْرِي مَا قُلْتُ فِي صَبِيحَةِ هَذَا اليوم؟ قلت: إني لمن علم الغيب لبعيد. فقال قلت أبياتا وهي:

<<  <  ج: ص:  >  >>