للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شرابا حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الأيام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.

فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد. وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه معه الطلاق الْبَطْنِ سَنَتَيْنِ، فَكَانَ فِيهِمَا لَا يَضْطَجِعُ عَلَى فراش، ولا يتكىء على شيء، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وستين سنة، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخاف مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُونَ رطلا من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله. وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صار الملك إلى ولده الْآخَرِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ فَأَشْبَهَ أَبَاهُ، وَقَدْ صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه.

[ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة]

فيها كانت وفاة القادر باللَّه الخليفة، وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ.

وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بين السنة والروافض، فقويت عَلَيْهِمُ السُّنَّةُ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَنَهَبُوا الْكَرْخَ وَدَارَ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دُورَ الْيَهُودِ لأنهم نسبوا إلى معاونة الرَّوَافِضِ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى دُورٍ كَثِيرَةٍ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ وَانْتَشَرَتِ الْمِحْنَةُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَتَجَاسَرُوا عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَنَهَبُوا دورا وأماكن سرا وجهرا، ليلا ونهارا، والله سبحانه أعلم.

خِلَافَةُ الْقَائِمِ باللَّه

أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ باللَّه، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَمَّا توفى أبوه أبو العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الأمين أبو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَشَرَةِ أشهر وإحدى عشر يَوْمًا، وَلَمْ يُعَمَّرْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا أَيْضًا شَيْءٌ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا يمنى، مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ كَانَ حليما كريما، محبا لأهل العلم والدين والصلاح، ويأمر بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ كَانَتْ تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا يَخْضِبُهَا، وَكَانَ يَقُومُ الليل كثير الصدقة، محبا للسنة وأهلها، مبغضا للبدعة وأهلها. وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَيَبَرُّ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَقْطَاعِهِ، يبعث منه إلى المجاورين بالحرمين وجامع الْمَنْصُورِ، وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فِي زِيِّ الْعَامَّةِ فَيَزُورُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مَنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وِلَايَتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَلَسُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>