للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صفة موت الخليفة القائم بأمر الله]

لما افْتَصَدَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رجب من بواسير كَانَتْ تَعْتَادُهُ مِنْ عَامِ الْغَرَقِ، ثُمَّ نَامَ بَعْدَ ذَلِكَ فَانْفَجَرَ فِصَادُهُ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ سَقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَحَصَلَ الْإِيَاسُ مِنْهُ، فَاسْتَدْعَي بِحَفِيدِهِ وَوَلِيِّ عهده عُدَّةِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد بن القائم، وأحضر إليه القضاة والفقهاء وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ ثَانِيًا بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَهِدُوا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سَنَةً، وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ قَبْلَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَقَدْ جَاوَزَتْ خِلَافَةُ أَبِيهِ قَبْلَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَجْمُوعُ أَيَّامِهِمَا خَمْسًا وثمانين سنة وأشهرا، وذلك مقاوم لدولة بنى أمية جميعها، وقد كان القائم بأمر الله جميلا مليحا حسن الوجه، أبيض مشربا بحمرة، فَصِيحًا وَرِعًا زَاهِدًا، أَدِيبًا كَاتِبًا بَلِيغًا، شَاعِرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ، وَهُوَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَكَانَ عَادِلًا كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَغَسَّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ عَنْ وصية الخليفة بذلك، فلما غسله عرض عليه مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَصُلِّيَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَجْدَادِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الرُّصَافَةِ، فَقَبْرُهُ يُزَارُ إِلَى الْآنِ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ لِمَوْتِهِ، وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ وَابْنُهُ لِلْعَزَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَرَقَ النَّاسُ ثِيَابَهُمْ، وَكَانَ يَوْمًا عَصِيبًا، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ دِينًا وَاعْتِقَادًا وَدَوْلَةً، وَقَدِ امْتُحِنَ مِنْ بَيْنِهِمْ بِفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ الَّتِي اقْتَضَتْ إِخْرَاجَهُ مِنْ دَارِهِ وَمُفَارَقَتَهُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَوَطَنَهُ، فَأَقَامَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةً كَامِلَةً ثُمَّ أَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نعمته وخلافته. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَأَصْبَحُوا قَدْ أَعَادَ اللَّهُ نِعْمَتَهُمْ ... إِذْ هُمْ قُرَيْشٌ وَإِذْ مَا مِثْلُهُمْ بَشَرُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ صَالِحٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) ٣٨: ٣٤ وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سورة ص، وبسطنا الكلام عليه فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

خِلَافَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ

وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عُدَّةُ الدِّينِ عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين أبى القاسم مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ الْعَبَّاسِيُّ، وَأُمُّهُ أَرْمِنِيَّةٌ تُسَمَّى أُرْجُوانَ، وَتُدْعَى قرة العين، وقد أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده، الْمُسْتَظْهِرِ وَالْمُسْتَرْشِدِ. وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ حَمْلٌ، فَحِينَ وُلِدَ ذَكَرًا فَرِحَ بِهِ جَدُّهُ وَالْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، إِذْ حَفِظَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَقَاءَ الْخِلَافَةِ فِي الْبَيْتِ الْقَادِرِيِّ، لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>