للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ اللَّهِ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ

ابن عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بن يحيى بن صاقعة الْغِفَارِيُّ الْكِنَانِيُّ الْمِصْرِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ، وَوَلَدِهِ النَّاصِرِ دَاوُدَ، وَقَدْ سَافَرَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وثلاثين وستمائة، وكان أديبا مليح المحاضرة رحمه الله تعالى. ومن شعره قوله:

وَلَمَّا أَبَيْتُمْ سَادَتِي عَنْ زِيَارَتِي ... وَعَوَّضْتُمُونِي بِالْبِعَادِ عَنِ الْقُرْبِ

وَلَمْ تَسْمَحُوا بِالْوَصْلِ فِي حَالِ يَقْظَتِي ... وَلَمْ يَصْطَبِرْ عَنْكُمْ لِرِقَّتِهِ قَلْبِي

نَصَبْتُ لِصَيْدِ الطَّيْفِ جَفْنِي حِبَالَةً ... فَأَدْرَكْتُ خَفْضَ الْعَيْشِ بِالنَّوْمِ وَالنَّصْبِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَّةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وستمائة

فيها دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رَسُولُ الْخَلِيفَةِ بَيْنَ صَاحِبِ مِصْرَ وَصَاحِبِ الشَّامِ، وأصلح بين الجيشين، وكانوا قد اشتد الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَنَشِبَتْ، وَقَدْ مَالَأَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ الْفِرِنْجَ وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِنْ نَصَرُوهُمْ عَلَى الشَّامِيِّينَ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَخَلَّصَ جَمَاعَةً مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، مِنْهُمْ أَوْلَادُ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَبِنْتُ الْأَشْرَفِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ صَاحِبِ حِمْصَ وغيرهم، جزاه اللَّهُ خَيْرًا. وَفِيهَا فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسى فَزَلَقَ فَتَكَسَّرَتْ وَوَقَفَ يَبْكِي، فَتَأَلَّمَ النَّاسُ لَهُ لِفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ دِينَارًا، فَلَمَّا أَخَذَهُ نَظَرَ فِيهِ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ هَذَا الدِّينَارُ أَعْرِفُهُ، وَقَدْ ذَهَبَ مِنِّي فِي جُمْلَةِ دَنَانِيرَ عَامَ أَوَّلَ، فَشَتَمَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ:

فَمَا عَلَامَةُ مَا قُلْتَ؟ قال زنة هذا كذا وَكَذَا، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا، فَوَزَنُوهُ فَوَجَدُوهُ كَمَا ذَكَرَ، فَأَخْرَجَ لَهُ الرَّجُلُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَكَانَ قَدْ وَجَدَهَا كَمَا قَالَ حِينَ سَقَطَتْ مِنْهُ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ. قَالَ: وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا أَنَّ رَجُلًا بِمَكَّةَ نَزَعَ ثِيَابَهُ لِيَغْتَسِلَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَخْرَجَ مِنْ عَضُدِهِ دُمْلُجًا زِنَتُهُ خَمْسُونَ مِثْقَالًا فَوَضَعَهُ مَعَ ثِيَابِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ اغْتِسَالِهِ لَبِسَ ثِيَابَهُ وَنَسِيَ الدُّمْلُجَ وَمَضَى، وَصَارَ إِلَى بَغْدَادَ وَبَقِيَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَيِسَ مِنْهُ، وَلَمْ يبق معه شيء إلا يسير فاشترى به زجاجا وقوارير لِيَبِيعَهَا وَيَتَكَسَّبَ بِهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِهَا إذ زلق فَسَقَطَتِ الْقَوَارِيرُ فَتَكَسَّرَتْ فَوَقَفَ يَبْكِي وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ يَتَأَلَّمُونَ لَهُ، فَقَالَ فِي جُمْلَةِ كَلَامِهِ وَاللَّهِ يَا جَمَاعَةُ لَقَدْ ذَهَبَ مِنِّي مِنْ مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون دينارا، ما باليت لفقده كما باليت لِتَكْسِيرِ هَذِهِ الْقَوَارِيرِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ هَذِهِ كَانَتْ جَمِيعَ مَا أَمْلِكُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ: فَأَنَا وَاللَّهِ لَقِيتُ ذَلِكَ الدملج، وأخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون. والله أعلم بالصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>