للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاء إليه، وقبّل بين عينيه، وقال: يا أخى أنت لا ذنب لك، وقد علمت أنك مكره مقهور. والقاهر يقول: الله الله! نفسي يا أمير المؤمنين. فقال: وحق رسول الله لا جرى عليك منى سوء أبدا. وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة، وتراجعت الأمور إلى حالها الأول، وحمل رأس نازوك وأبى الهيجاء ونودي عليهما: هذا رأس من عصى مولاه. وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل، وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافة خرج من بغداد متنكرا فدخل الموصل، ثم صار إلى أرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر، وإنما وافق جماعة الأمراء مكرها، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم، بل كان يطيب قلبه، ولو شاء لقتله لما طلب من داره. فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده، لثقته به. وقرر أبا على بن مقلة على الوزارة، وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة، وجعل محمدا أخاه - وهو القاهر - عند والدته بصفة محبوس عندها، فكانت تحسن إليه غاية الإحسان، وتشترى له السراري وتكرمه غاية الاكرام.

[ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم، وما كان منهم إلى الحجيج]

فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلميّ فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الّذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا. فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئا. بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك.

ترى المحبين صرعى في ديارهم … كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

فلما قضى القرمطى لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام. ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر. وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين

<<  <  ج: ص:  >  >>