للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعمل الأسطول والكتب السلطانية، فمنها كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّطْوِيلِ في الحصار كثرة الذنوب، وارتكاب المحارم بين الناس، فان اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية، وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الاستعاذة مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ المقدس قد ظهر فيه الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ فِي بِلَادِهِ مَا لَا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة. ومنها كِتَابٌ يَقُولُ فِيهِ إِنَّمَا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لَنَا عَوَاقِبَ صِدْقِنَا، وَلَوْ أَطَعْنَاهُ لَمَّا عَاقَبَنَا بِعَدُوِّنَا، وَلَوْ فَعَلْنَا مَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ لَفَعَلَ لَنَا مَا لَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ إلا به، فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله، ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان، وَلَا فُلَانٌ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ ولا فلان، فَكُلُّ هَذِهِ مَشَاغِلُ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ النَّصْرُ بها، وإنما النصر من عند الله، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكِلَنَا اللَّهُ إِلَيْهَا، وَالنَّصْرُ به واللطف منه، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ ذُنُوبِنَا، فَلَوْلَا أَنَّهَا تَسُدُّ طَرِيقَ دُعَائِنَا لَكَانَ جَوَابُ دُعَائِنَا قَدْ نَزَلَ، وَفَيْضُ دُمُوعِ الْخَاشِعِينَ قَدْ غَسَلَ، وَلَكِنْ فِي الطَّرِيقِ عَائِقٌ، خَارَ اللَّهُ لِمَوْلَانَا فِي القضاء السابق واللاحق. ومن كِتَابٍ آخَرَ يَتَأَلَّمُ فِيهِ لِمَا عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنَ الضَّعْفِ فِي جِسْمِهِ بِسَبَبِ مَا حَمَلَ عَلَى قَلْبِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ، أثابه الله بقوله: وما في نفس المملوك شائنة إلا بقية هذا الضعف الّذي في جسم مولانا فإنه بقلوبنا، ونفديه بأسماعنا وأبصارنا ثم قال:

بِنَا مَعْشَرَ الْخُدَّامِ مَا بِكَ مِنْ أَذًى ... وَإِنْ أَشْفَقُوا مِمَّا أَقُولُ فَبِي وَحْدِي

وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ صَاحِبُ الرَّوْضَتَيْنِ هَاهُنَا كُتُبًا عِدَّةً مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى السُّلْطَانِ، فِيهَا فصاحة وبلاغة ومواعظ وتحضيض على الجهاد، فَرَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إِنْسَانٍ مَا أَفْصَحَهُ، وَمِنْ وَزِيرٍ مَا كَانَ أَنْصَحَهُ، وَمِنْ عَقْلٍ مَا كان أرجحه.

[فصل]

وكتب الفاضل كتابا على لسان السُّلْطَانِ إِلَى مَلِكِ الْغَرْبِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسُلْطَانِ جَيْشِ الْمُوَحِّدِينَ، يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ المؤمن، يستنجده فِي إِرْسَالِ مَرَاكِبَ فِي الْبَحْرِ تَكُونُ عَوْنًا للمسلمين على المراكب الفرنجية في عبارة طويلة فصيحة بليغة مليحة، حكاها أبو شامة بطولها.

وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والألطاف، صُحْبَةَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الْحَزْمِ عبد الرحمن بن منقذ، وسار في البحر في ثامن ذي القعدة، فَدَخَلَ عَلَى سُلْطَانِ الْمَغْرِبِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَلَمْ يُفِدْ هذا الإرسال شيئا، لأنه تَغَضَّبَ إِذْ لَمْ يُلَقَّبْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ إشارة الفاضل إلى عدم الإرسال إليه، ولكن وقع ما وقع بمشيئة الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>