للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات، وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرئاسة، وما زاد شيء إلا نقص. كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصى، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسودان، وكان له دار يقال لها دار الشجرة، بها من الإناث والأمتعة شيء كثير جدا، كما ذكرنا ذلك في سنة خمس حين قدم رسول ملك الروم. وقد ركب المقتدر يوما في حراقة وجعل يستعجل الطعام فأبطئوا به فقال للملاح: ويحك هل عندك شيء آكل؟ قال: نعم، فأتاه بشيء من لحم الجدي وخبز حسن وملوحا وغير ذلك. فأعجبه ثم استدعاه فقال: هل عندك شيء من الحلواء، فانى لا أحسن بالشبع حتى آكل شيئا من الحلواء. فقال: يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب. فقال هذا شيء لا أطيقه. ثم جيء بطعام فأكل منه وأوتى بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن يعمل كل يوم في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها، وإن لم يتفق ركوبه كانت للملاح. وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبدا.

وقد أراد بعض خواصه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس في هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية، وكانت صفة قرية من القرى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها، وزروعها وثمارها وأشجارها، وأنهارها وما يتبع ذلك مما يكون في القرى، الجميع من فضة مصور، وأمر بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل، وأن لا يكلف شيء من المطاعم سوى سمك طرى، فاشترى الرجل بثلاثمائة دينار سمكا طريا، وكان جملة ما أنفق الرجل على سماط المقتدر ألفا وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحرمين وأرباب الوظائف، وكان كثير التنفل بالصلاة والصوم والعبادة، ولكنه كان موثرا لشهواته، مطيعا لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون. وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي [غلمان] مؤنس الخادم، فقتل عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة - أعنى سنة ثلاثمائة وعشرين - وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وأربعة عشر يوما، كان أكثر مدة ممن تقدمه من الخلفاء.

[خلافة القاهر]

لما قتل المقتدر بالله عزم مؤنس على تولية أبى العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم المقتدر، فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الأمراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ:

بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن ويشاورهن؟ ثم أحضروا محمد بن المعتضد - وهو أخو المقتدر - فبايعه القضاة والأمراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحر

<<  <  ج: ص:  >  >>