الأمير سيف الدين رقطية نَائِبُ طَرَابُلُسَ، وَأَمِيرَانِ آخَرَانِ، وَالْتَقَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى دِمَشْقَ قَبْلَ الظُّهْرِ فَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا جِدًّا، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، حَتَّى مَنْ لَا نَوْبَةَ لَهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِ مَنْ هَرَبَ، وَجَلَسَ الْفَخْرِيُّ هُنَالِكَ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ يُحَلِّفُ الْأُمَرَاءَ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي جَاءَ لَهُ، فَحَلَفُوا لَهُ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ وَنَزَلَ الأمير تغردمر بالميدان الكبير، ونزل عمارى بِدَارِ السَّعَادَةِ وَأَخْرَجُوا الْمُوسَاوِيَّ الَّذِي كَانَ مُعْتَقَلًا بِالْقَلْعَةِ، وَجَعَلُوهُ مُشِدًّا عَلَى حَوْطَاتِ حَوَاصِلِ أُلْطُنْبُغَا وَكَانَ قَدْ تَغَضَّبَ الْفَخْرِيُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الأمراء منهم الأمير حسام الدين السمقدار، أَمِيرُ حَاجِبٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَاحِبٌ لِعَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، فَلَّمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ هَرَبَ فِيمَنْ هَرَبَ، وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ الْفَخْرِيَّ، بَلْ دَخَلَ الْبَلَدَ فَتَوَسَّطَ فِي الْأَمْرِ: لَمْ يَذْهَبْ مَعَ ذَاكَ وَلَا جَاءَ مَعَ هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ استدرك ما فاته فرجع من البار إِلَى الْفَخْرِيِّ، وَقِيلَ بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ حِينَ جاء وَهُوَ مَهْمُومٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ أُعْطِيَ مِنْدِيلَ الْأَمَانِ، وَكَانَ مَعَهُمْ كَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُمْ، ومنهم الأمير سيف الدين حفطية وكان شَدِيدَ الْحَنَقِ عَلَيْهِ، فَأَطْلَقَهُ مِنْ يَوْمِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى الْحُجُوبِيَّةِ، وَأَظْهَرَ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ عَظِيمَةٍ، وَرِيَاسَةٍ كَبِيرَةٍ، وَكَانَ لِلْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ سَعْيٌ مَشْكُورٌ، وَمُرَاجَعَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ مَعَهُ، فَأَنْجَحَ اللَّهُ مَقْصِدَهُ وَسَلَّمَهُ مِنْهُ، وَكَبَتَ عَدُّوَهُ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُلِّدَ قَضَاءَ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ الشَّيْخُ فخر الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ، الّذي كان مع النائب المنفصل، وذلك أنهم نَقَمُوا عَلَيْهِ إِفْتَاءَهُ أُلْطُنْبُغَا بِقِتَالِ الْفَخْرِيِّ، وَفَرِحَ بولايته أصحاب الشيخ تقى الدين بن تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَخَصِّ مَنْ صَحِبَهُ قَدِيمًا، وَأَخَذَ عَنْهُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً وَعُلُومًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخِ رَجَبٍ آخِرِ النَّهَارِ قَدِمَ الْأَمِيرُ قُمَارِيُّ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ الناصر بن النَّاصِرِ مِنَ الْكَرَكِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ أُلْطُنْبُغَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ قُمَارِيُّ بِقُدُومِ السُّلْطَانِ فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَاسْتَعَدُّوا لَهُ بِآلَاتِ الْمَمْلَكَةِ وَكَثُرَتْ مُطَالَبَتُهُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وَالذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ الْفَخْرِيُّ فِي دَسْتِ النِّيَابَةِ بِالْمَوْكِبِ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ أَوَّلُ رُكُوبِهِ فِيهِ، وَإِلَى جَانِبِهِ قُمَارِيُّ وَعَلَى قُمَارِيِّ خِلْعَةٌ هَائِلَةٌ، وَكَثُرَ دُعَاءُ النَّاسِ لِلْفَخْرِيِّ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ الْأُلُوفِ إِلَى الْكَرَكِ بِإِخْبَارِ ابْنِ السُّلْطَانِ بِمَا جَرَى: مِنْهُمْ تغردمر وأقبغا عبد الواحد وهو الساقي، وميكلى بُغَا وَغَيْرُهُمْ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِهِ اسْتَدْعَى الْفَخْرِيُّ الْقَاضِيَ الشَّافِعِيَّ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي إِحْضَارِ الكتب فِي سَلَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute