للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بخمسة آلاف دينار لتصرف عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي الْأَدَبِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ وَاقْتَنَى كتبا كثيرة، وكانت تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وزراء بنى بويه مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ فِي مَجْمُوعِ فَضَائِلِهِ، وَقَدْ كَانَتْ دَوْلَةُ بَنِي بُوَيْهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَفَتَحَ خَمْسِينَ قَلْعَةً لِمَخْدُومِهِ مُؤَيِّدِ الدولة، وابنه فخر الدولة، بصرامته وحسن تدبيره وجودة رأيه، وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ، وَيُبْغِضُ الْفَلْسَفَةَ وَمَا شابهها من علم الكلام والآراء الْبِدْعِيَّةِ، وَقَدْ مَرِضَ مَرَّةً بِالْإِسْهَالِ فَكَانَ كُلَّمَا قَامَ عَنِ الْمِطْهَرَةِ وَضَعَ عِنْدَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوى نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب، وقد سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الْإِسْنَادِ، وَعُقِدَ لَهُ فِي وَقْتٍ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ فاحتفل الناس لحضوره، وحضره وجوه الأمراء، فلما خرج إليه لَبِسَ زِيَّ الْفُقَهَاءِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا يُعَانِيهِ مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ، وَذَكَرَ للناس أنه كَانَ يَأْكُلُ مِنْ حِينِ نَشَأَ إِلَى يَوْمِهِ هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، واتخذ بناء فِي دَارِهِ سَمَّاهُ بَيْتَ التَّوْبَةِ، وَوَضَعَ الْعُلَمَاءُ خُطُوطَهُمْ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَحِينَ حَدَّثَ اسْتَمْلَى عَلَيْهِ جماعة لكثرة مجلسه، فكان في جملة من يكتب عنه ذلك اليوم القاضي عبد الجبار الهمدانيّ وأضرابه من رءوس الفضلاء وسادات الفقهاء والمحدثين، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي قَزْوِينَ بِهَدِيَّةٍ كُتُبٍ سنية، وكتب معها.

العميدي عبد كافى الكفاة وأنه ... اعقل فِي وُجُوهِ الْقُضَاةِ

خَدَمَ الْمَجْلِسَ الرَّفِيعَ، بَكُتْبٍ ... منعمات، مِنْ حُسْنِهَا مُتْرَعَاتِ

فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ أَخَذَ مِنْهَا كِتَابًا وَاحِدًا وَرَدَّ بَاقِيَهَا وَكَتَبَ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ.

قَدْ قَبِلْنَا مِنَ الْجَمِيعِ كِتَابًا ... وَرَدَدْنَا لِوَقْتِهَا الْبَاقِيَاتِ

لَسْتُ أَسْتَغْنِمُ الْكَثِيرَ وَطَبْعِي ... قَوْلُ: خذ ليس مذهبي قول هات

وجلس مَرَّةً فِي مَجْلِسِ شَرَابٍ فَنَاوَلَهُ السَّاقِي كَأْسًا، فلما أراد شربها قال له بعض خدمه: إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ مَسْمُومٌ. قَالَ: وَمَا الشَّاهِدُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ؟ قَالَ تُجَرِّبُهُ، قَالَ: فِيمَنْ؟ قَالَ فِي السَّاقِي. قَالَ وَيْحَكَ لَا أَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، قَالَ فَفِي دَجَاجَةٍ، قَالَ: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، تم أَمَرَ بِصَبِّ مَا فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ وَقَالَ للساقى: لا تدخل بعد اليوم داري، وَلَمْ يَقْطَعْ عَنْهُ مَعْلُومَهُ. وَقَدْ عَمِلَ عَلَيْهِ الوزير أبو الفتح ابن ذِي الْكِفَايَتَيْنِ حَتَّى عَزَلَهُ عَنْ وِزَارَةِ مُؤَيِّدِ الدولة في وقت وباشرها عوضه واستمر فيها مدة، فبينما هو ذات ليلة قد اجتمع عنده أصحابه وهو في أتم السرور، قد هيئ له في مجلس حافل بأنواع اللذات، وقد نظم أبياتا والمغنون يغنونه بها وَهُوَ فِي غَايَةِ الطَّرَبِ وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَهِيَ هذه الأبيات

دَعَوْتُ الْهَنَا وَدَعَوْتُ الْعُلَا ... فَلَمَّا أَجَابَا دَعَوْتُ الْقَدَحْ

وَقُلْتُ لِأَيَّامِ شَرْخِ الشَّبَابِ ... إِلَيَّ. فَهَذَا أوان الفرح

<<  <  ج: ص:  >  >>